مقالات قداسة البابا شنودة الثالث
بين الصمت والكلام
بعض الناس – لخوفهم من أخطاء اللسان، يفضلون الصمت. ويقولون إن الصمت أفضل من الكلام، واكثر حرصاً منه. وفى الحقيقة انه ليس فى كل كلام خطيئة، ومنه ما هو نافع. كما أنه ليس كل صمت فضيلة. فاحياناً ندان على صمتنا...
والإنسان يعرف متى يصمت، ومتى يتكلم. وكيف يتكلم بحيث لا يخطئ. وكما قال سليمان الحكيم "تفاحة من ذهب فى مصوغ من فضة، كلمة مقولة فى حينها". فما هى اذن الأمثلة التى من الكلام النافع
إن كثيراً من السوّاح كانوا يأتون من أقاصى الأرض إلى بعض نسّاك مصر المتوحدين يطلبون من أفواههم كلمة منفعة. وكانت كل كلمة منهم لها عمق وتأثير بحيث تثبت فى آذان وعقول سامعيهم، ويتخذونها مصدر هداية لهم فى طريق الحياة. حقاً إن الذين لا يتكلمون الا قليلاً، يكون لكلامهم وزن معين لا يقدر بثمن...
وللآن ما زال البعض يطلب كلمة منفعة من الحكماء أى من الذين يثق بحكمتهم، أو يثق بعلاقتهم بالله وبعمق تفكيرهم وبخبرتهم فى الحياة، وحسن توجيههم .
وكما يطلب البعض كلمات المنفعة ويحرص عليها، كذلك يطلب كلمات البركة ويسعى إليها... بركة من أحد الوالدين أو من كليهما.. وبركة من شيخ بار له دعواته الطيبة، وبركة من مرشده الروحى...
إن كلمة البركة تسعد الإنسان وتبقى معه كل حياته، وبخاصة لو كانت بركة شاملة، تحل عليه وعلى اولاده، وعلى بيته، وعلى كل ما تمتد اليه يده، وهكذا كل ما يعمله ينجح فيه...
ويتعود هو على حياة البركة، ويحرص على أن يبارك الطعام قبل أن يأكله، ويطلب من الله أن يبارك ماله. فالقليل الذى فى يده يصبح بالبركة كثيراً، ولا يعوزه شئ.
أيضاً من كلام المنفعة: كلام التعليم والوعظ والإرشاد.
إنه مثل الماء للفردوس الجدد، يروى النفس ويشبعها وينميها... ومن أهميته لا تخلو منه دور العبادة، ولا كل مراكز الإرشاد...
ولا يستغنى الانسان عن كلمة التعليم مهما كبر. انما تختلف فى عمقها حسب سنه. وطوبى للانسان الذى يطلب كلمة التعليم طول عمره، من المهد الى اللحد، وبخاصة من هو اكبر منه سناً أو أعمق منه حكمة أو أكثر منه خبرة بالحياة...
وإن كان الكل تنفعهم كلمة التعليم، فإن البعض يحتاج إلى كلمة التشجيع، وبخاصة إن كانوا من المبتدئين أو الصغار. كلمة التشجيع تحفز همتهم إلى المزيد، وتزيل منهم عامل الخوف. ولسنا نقصد فقط المبتدئين من جهة العمر، إنما أيضاً المبتدئين فى أى عمل جديد، أو فى أية دراسة أعلى، أو فى وظيفة إدارية كبرى... كلهم يحتاجون إلى كلمة تشجيع. كذلك المقدمون على مغامرة ما، أو على اصلاح إدارة شمل الفساد كل فروعها. وربما تطهيرها من المفسدين يكون أمراً مخيفاً لأنهم تدربوا على تدمير كل شئ. لذلك العمل فى وسطهم يحتاج إلى كلمات التشجيع لئلا ييأس المصلحون ويفشلوا...
من الكلمات النافعة المطلوبة أيضاً كلمات الصلح والسلام والتهدئة. وما أصدق عبارة "الجواب الليّن يصرف الغضب". ولا شك أنه أيضاً يهدئ النفس. وكذلك كل كلام المصالحة الذى بواسطته ينتهى الخصام، وتعود المحبة، ويسود السلام. وبنفس الوضع كل كلمة لتهدئة الخواطر والمشاعر الثائرة. وطوبى لصانعى السلام بكافة الطرق.
وليس السلام فقط لازم فى الصلح بين المخاصمات، وانما كلمة السلام لازمة فى كل لقاء وفى كل مقابلة. ونحن نلقى السلام على كل من نلتقى به، ونعتبر هذا امراً واجباً.
ومن الكلمات اللازمة، كل كلمة فى مناسبتها:
كلمات التعزية لمن فقدوا عزيزاً عليهم فى وفاة أو فى حادث اليم. وهى كلمات لازمة، ويؤاخذ من يقصر فى قولها
كلمات التحية والترحاب بكل زائر يزورنها
كلمات الوداع لمن يفارقنا فى سفر طويل
كلمات الشكر نقولها لكل من قدم لنا خدمة معينة، أو لمن قدّم هدية فى مناسبة عيد أو حفل
كلمات التهنئة نقولها لكل من نجح فى امتحان، أو لمن فاز بجائزة أو بتقدير، أو لمن قدم من السفر بسلامة الله
كلمات النصح نقولها لصديق حتى يحترس من خطر معين، أو يستعد للقاء هام، أو يقدم على مشروع جديد
كل هذه كلمات لازمة، ولا يمكن أن نقصر فيها معتذرين بفوائد الصمت. فكل صمت فى المناسبات السابقة هو خطأ نلام عليه
كذلك من المواقف التى يلزم فيها الكلام: الدفاع عن الحق اذا ما سئلنا فى ذلك، أو حينما نشعر أن الواجب يلزمنا أن نقف وندافع، وبخاصة لكى ندفع الضيم عن مظلوم يفتك به من هو أقوى منه! هل فى مثل هذه الحالة نصمت عن الشهادة للحق أو عن الدفاع عن المظلوم! ظانين أن الصمت فضيلة! كلا أن الصمت فى هذه الحالة هو خطيئة...
من الكلمات اللازمة أيضاً والمفرحة كلمات العفو والمسامحة: يقولها أحد الرؤساء لمرءوس له قد اخطأ. أو يقولها اب لأبنه الذى ينتظرها من فمه، أو يقولها حاكم لمجموعة من شعبه...
كلها كلمات تفرح القلب، وتنقذة من ضيق كان يجثم على صدره، ومن ذنب كان يزعجه فى نومه وصحوه...
إن الصمت عن منح كلمة العفو يزعج النفس، وكذلك التأخير فى النطق بها... ومثل كلمة العفو، كل كلمة تفرح القلب
اذن ليس كل صمت فضيلة... إنما الصمت يحسن فى المواقف التى تناسب ذلك...