"قبـر يسوع الضائع":
رواية خيالية ترتكز على إكتشاف أركيولوجي
الأخت باسمة الخوري
في الفترة الاخيرة الجميع تكلموا عن وثائقي على تلفزيون فضائي، من إنتاج الكندي جايمس كاميرون منفّذ فيلمي تايتانيك وترمينايتور، وتنفيذ الإسرائيلي سِمحا يعقوبوفيتش، يكشف فيه عمّا يظنّه "قبر يسوع الضائع" وعائلته.
ليس هذا الوثائقي مجرّد تقرير علمي صادر عن بعثة تنقيب عن الآثارات، بل من خلال إكتشاف لأثر من القرن الأول، ينتقل "العلماء" الى تأكيدات تاريخية ولاهوتية، يؤكّدون صحّتها وعلميّتها وموضوعيتها: تم العثور على قبر يسوع وأمه وأخيه وامرأته وابنه، وبعض أفراد عائلته الذين لا نعرفهم بعد. ولمن يجرؤ على انتقاد خيالهم المغلّف برداء علمي يجيبون: إنها بشرى سارة للعالم عامة وللمسيحيين خاصة، لأن علماء الآثار اليهود قد تمكّنوا من تأكيد صحة وجود يسوع التاريخي.
أكد كاميرون في مؤتمر صحافي عقده في مكتبة نيويورك العامة في 26 شباط 2007: سنقدّم في هذا الفيلم الوثائقي، وللمرة الأولى في التاريخ "براهين حسّية وملموسة" لوجود يسوع التاريخي. فما هي قصة هذا القبر، وما المقصود من إعطائه كل هذه الأهمية الإعلامية
إكتشاف قبر من آلاف القبور الأثرية
أثناء القيام بحفريات لإنشاء بيت جديد في حيّ تلبيوت - ناحية القدس عام 1980، تمّ العثور على عشرة صناديق حجرية تحتوي عظاماً بشرية. لم تأخذ الحادثة أهمية معيّنة إلا في أواخر التسعينات، عندما خصّصت إحدى مجلات الآثار اليهودية ملفاً عن الموضوع. لقد حُفِـر على هذه الصناديق الحجرية أسماء الموتى "اليهود" الذين وُضِعَت فيها عظامهم. واحد منها يعود الى يشوَع بِن يَوسِف (يسوع بن يوسف) ؛ وآخر إلى يِهودا بار يشوَع (يهوذا بن يسوع) وقد كُتِبا بالآرامية؛ واحد منها يحمل إسم "ماريا" الروماني وقد كُتِب بالعبرية؛ وبالعبرية أيضًا كُتِب على صندوقين إسما "متَيا" و"يوسي" (يوسف)؛ فيما يحمل صندوق آخر إسم "مريَـمِـنِي أي مارا"! (أي مريم المعروفة بالمعلمة) باللغة اليونانية. وبما أنه كان من الشائع في اليهودية في القرن الأول أن توضع عظام من ماتوا منذ زمن في صناديق حجرية، وجمعها في مقبرة عائلية؛ من الطبيعي الإستنتاج بأن هؤلاء الأشخاص هم أبناء عائلة واحدة، ولكن من هنا إلى الإستنتاج بأن هذا الـ"يسوع" هو المسيح يسوع، وبأن هذه الـ "مريَـمِـنِي أي مارا" هي المجدلية، وأن يسوع المسيح قد تزوّجها، وبأن يِهودا بار يشوَع هو ابنهما إلخ. مسافة لا يمكن قطعها بهذه البساطة الساذجة.
تأكيدات فريق الوثائقي
أولاً: يدلّ جمع هؤلاء الأشخاص في مقبرة واحدة على أنهم أفراد عائلة واحدة.
ثانياً: مريم هي أم يسوع، ومتى أحد أقربائه، و"يوسي" أحد إخوته الأربعة إلى جانب (يعقوب وسمعان ويهوذا) الذين يذكرهم الإنجيل. هذا ما يدل على رابط الدم بين يسوع وإخوته، وبالتالي على أن مريم لم تكن عذراء بل أماً لعديدين.
ثالثاً: "مريَـمِـنِي أي مارا" هو الإسم الذي أُعطي لمريم المجدلية في القرن الرابع ميلادي (في كتاب أعمال فيلبس الغنوصي)، وبما أن الفريق قام بفحص dna لغبار العظام الموجودة في صندوقي "يشوَع بِن يَوسِف" و"مريَـمِـنِي أي مارا"، فتبيّن علمياً بأنهما مختلفين، فهما بالتالي ليسا من العائلة عينها. وبما أنهما في مقبرة عائلية، فهما بالتالي زوجان.
رابعاً: "يِهودا بار يشوَع" هو إبن يسوع و"مريَـمنِي أي مارا" المجدلية.
خامساً: إن إحتمال جمع هذه الأسماء معاً لا يتعدّى الواحد على 600، بحسب أندريه فويرفيرغر، أستاذ الرياضيات في جامعة تورنتو الذي كُلِّف دراسة الموضوع.
بهذا إكتمل سيناريو يمكن أن يشكّل تابعاً لقصة "شيفرة دافنتشي" فيخلق عند الناس حشرية تؤدي، من جهة، الى ملء جيوب صانعيه، ومن جهة ثانية، إلى المساهمة في بلبلة الشعب المسيحي البسيط، المتعلّق بإيمانه الشعبي. كانت "بي بي سي" قد أذاعت وثائقياً عن الموضوع عينه منذ احدى عشرة سنة، مستندة الى البرهان التجاري عينه والمتمحور ظاهرياً حول زواج يسوع من المجدلية، وبالعمق حول وجود بقايا عظام يسوع، وبالتالي حول نفي قيامته من الأموات، وذلك دون أي برهان علمي جدّي. فماذا وجد هؤلاء "العلماء" وجدوا نقشاً على صندوق مدفني بإسم "يسوع ابن يوسف". فماذا يبرهن ذلك أهو أولاً يسوع الناصري الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي وقام من الأموات بعد ثلاثة أيام، أم هو يسوع آخر من بين آلاف الأشخاص الذي كانوا يحملون هذا الإسم في ذلك العهد وبالتالي ماذا يبرهن نقش كهذا عن عدم قيامة يسوع الناصري
ردّ علمي
- قبل أن نبدأ بالغوص في عمق الحدث، يجدر بنا التذكير بأن الدافع الذي حدا بهؤلاء "العلماء" الى البحث والتنقيب، في هذا المكان بالذات، هو ارتكازهم على نصوص العهد الجديد، وعلى شهاداته كمصدر تاريخي موثوق. قِبِل علماء الآثار إذاً صحة العهد الجديد كنقطة إنطلاق لبحوثهم، دون التوقف عند كل معطياته حول باقي تفاصيل حياة يسوع ورسالته وموته وقيامته.
- إن أسماء يسوع ومريم ويوسف إلخ الغالية على المسيحيين المعتادين قراءة العهد الجديد، كانت أسماء شائعة جداً في المحيط اليهودي للقرن الأول الميلادي. يؤكد عاموس كلومر أحد علماء الآثار الإسرائيليين أنهم قرأوا 71 مرة إسم يسوع، بين 900 قبر من الحقبة نفسها، في دائرة قطرها 4 كلم في محيط أورشليم القديمة، كما قرأوا إسم "يسوع بن يوسف"؛ وإسم يسوع محاطاً بأسماء عديدة نقرأها في العهد الجديد. ففي جبل الزيتون مثلاً كُشِفت عام 1873 مجموعة صناديق حجرية لعظام بشرية تحمل أسماء يهوذا، ومريم، ويسوع، ومرتا، وسالومه، واليعازر إلخ. وفي 1945 وجدت في تلبيوت صناديق عظام تحمل إسم يسوع، ومريم إبنة سمعان، وسمعان برسابا، وسفيرة إلخ، مما حدى بإليعازر سوكينِك أن يعتبر عام 1947 بأن الصندوق الذي يحمل إسم يسوع هو قبر يسوع المسيح بالذات، لأنه ظن أنه وجد محفورا عليه فعل "انتحب"، فاعتبر بأن تلاميذه ناحوا عليه بعد موته... لكن مجموعة العلماء رفضوا هذه الفرضية جملة وتفصيلاً.
وفي 2002 أعلن أحد جامعي الآثار اليهود عن صندوق حجري لعظام كُتِب عليه "يعقوب ابن يوسف، أخ يسوع"، وبالطبع تسبب الإعلان بضجة إعلامية كبرى مفادها: لقد تأكد أخيراً أن الكنيسة ضلَّلت البشر آلاف السنين بقولها ان مريم عذراء، وبأن يسوع هو إبن الله الوحيد، وليس إبن يوسف النجار. لكن ما لبث أن تأكّد أن هذا الصندوق مزوّر لا يمتّ الى التاريخ والعلم بصلة. ويبدو أن الإحصاءات التي أُجريت على أشهر عشرة أسماء يهودية في القرن الأول (بين 2625 إسم وجدت على قبور)، قد دلّت على أن اسماء يوسف ويهوذا ويسوع تأتي في المقدمة مع اليعازر وسمعان ويوناتان وحننيا ومتيا ويوحنان ومناحيم؛ ويأتي إسم مريم ومرتا وسالومه في طليعة أسماء النساء.
- لماذا انتظر الفريق 27 سنة ليطلق فرضياته "العلمية" المتعلّقة بإكتشافات مقبرة تلبيوت هل تكفي إشارة من القرن الرابع تسمّى فيها المجدلية "مريَـمِـنِي أي مارا" للتأكيد بأن "مريَـمِـنِي أي مارا" الموجودة في هذه المقبرة هي مريم المجدلية التي يذكرها العهد الجديد وإن كان إسم "مريَـمِـنِي أي مارا" لم يُعرف كمرادف لمريم المجدلية إلا في القرن الرابع، وفي خارج فلسطين، فكيف يمكننا تأكيد أن يهود القرن الأول كانوا يستعملون هذا الإسم لإمرأة من عندهم بدلاً من "مريم المجدلية" المعروف في لغتهم الأم
ثم إن اللغة اليونانية لم تكن شائعة في القرن الأول الميلادي الى درجة نقش أسماء أشخاص يهود بهذه اللغة. وإن كانت "مريَـمِـنِي أي مارا" هي مريم المجدلية عينها، فلماذا لم يذكرها، بهذا الإسم، العهد الجديد، الذي يستندون إلى نصوصه
- أن يكون بين الأشخاص رابط عائلي هو من البديهيات، بما أنهم دُفِنوا في مقبرة واحدة. من هنا فإن فحص الحمض النووي dna لا يعني شيئاً. ولكن كيف يمكن تأكيد الرابط الزوجي بين شخصين بمجرّد إنتـفاء رابط الدم بينهما وكيف يمكن التأكد من أن "مريَـمِـنِي أي مارا" هي مريم المجدلية، دون أن يكون في حوزة "العلماء" مصدر أكيد من حمضها النووي ثم ألم يكن في هذه المقبرة نساء أخريات لماذا لم يقم الفريق بفحص dna للأشخاص الباقين فماذا لو لم تكن مريم هي أم يسوع مثلاً وإن كان الفريق يؤكّد بأن "يهودا بار يشوع" هو إبن يسوع ومريَـمِـنِي هذه، فلماذا لم يؤكّدوا ذلك بفحصهم dna العائد له ثم ما هي أعمار هؤلاء الأشخاص وهل في عظام يسوع ما يدلّ على آثار المسامير مثلاً وهل تأكدوا فعلاً من عمر هذه القبور بالتحديد، وإن كانت تعود فعلاً إلى أيام يسوع
- وإن كان المخرج قد اعتمد على الإنجيل في تحديد هوية هؤلاء الأشخاص، فلماذا لم يذكر العهد الجديد شيئاً عن يهوذا بن يسوع لماذا لم يُذكَر حتى إسمه يجيب شارل بيلليغرينو، مؤلّف كتاب "قبر عائلة يسوع"، بالتوافق مع سمحا يعقوبوفيش، أن في ذلك تدبيراً احترازياً لئلا يُقتّل. ويعتبرون أن "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" ما هو سوى ابنه يهوذا؛ متجاهلين عمر هذا الإبن من جهة، وضاربين بعرض الحائط كل الأبحاث، اللاهوتية والبيبلية والتاريخية، لنصوص إنجيل يوحنا وشخصياته (ومنهم التلميذ الحبيب)، على مدى مئات السنين، من جهة ثانية.
- بتفسيره وجود نقش لإسم متّيا على أحد الصناديق، يعلن كامرون بأنه قريب مريم أم يسوع. فلماذا يكون يوسي أحد إخوته، ولا يكون متّيا هو أيضًا أحدهم. وإن تهرّب مخرج تايتانيك من هذا الجواب، كي لا يقع في مطبّ عدم معرفة العهد الجديد لأي من أقرباء يسوع بهذا الإسم؛ فكيف يفسّر عدم وجود إخوته الآخرين الذين يدعم وجودهم
- كيف يمكن أن تكون مقبرة عائلة يسوع الناصري، المتوسّطة الحال، في أورشليم فجذور عائلة يسوع هي في بيت لحم، وقد عاش طوال حياته مع عائلته في الناصرة، ولم يُشر أي من نصوص العهد الجديد إلى روابط عائلية أورشليمية، مما يمكّننا من الجزم بعدم إمكان دفن أفراد العائلة في أورشليم - اليهودية، وهي مكان بعيد عن ناصرة الجليل مكان سكنهم، وعن بيت لحم منشئهم.
- إن كان يسوع هذه المقبرة هو يسوع المسيح الناصري، فكيف يمكن أن يكون تلاميذه قد نقشوا على قبره "يسوع بن يوسف" وهم الذين كانوا يؤمنون بأنه "ابن الله"، وبأن يوسف ليس إلا من تبنّاه مدخِلاً إياه في عائلة الملك داود
- إن كان الفريق قد ارتكز على نصوص العهد الجديد لتحديد هويات الأشخاص المدفونين في هذه المقبرة، فكيف لا يأخذون في الإعتبار، تأكيد السلطات اليهودية والرومانية بأن قبر يسوع كان فارغاً في اليوم الثالث
- إن كان يسوع قد دُفِن في قبر قريب من الجلجلة يخص يوسف الرامي (مت 24: 60)، فلماذا مشقّة نقل كل هذه الصناديق المدفنية الى قبر جديد، في حقبة هي أبعد ما تكون عن السلام والبحبوحةظ
- إن كان الفريق مهتماً بالعلم الموضوعي الصرف، فلماذا لم يأتِ أبداً على ذكر قبر المسيح المعروف منذ القرون الأولى، ولماذا لم يقم بمقابلة بين من يؤكد موثوقيته التاريخية والأركيولوجية، في مقابل من ينفي ذلك
- أكد كاميرون إقتناعه بأن "أحداً لا يستطيع إثبات قيامة المسيح". صحيح، لأن الإثبات العلمي هو نتيجة مسيرة منطقية تستنتج الخواتم إنطلاقاً من مبادئ بديهية، في حين ترتكز المعرفة التاريخية، على قيمة الشهادات. وبالتالي لا يمكن الإرتكاز على ما وجده علماء الآثار من صناديق مع نقوش، لإستنتاج "عدم إمكان إثبات قيامة المسيح"، لأن هذا الإستنتاج لا علاقة له بالعلم، بل هو مجرّد رأي. أما الإثبات التاريخي فهو شهادة التلاميذ الذي أجمعوا على إختيار الإضطهاد على الشك بما اختبروه من قيامة المسيح. كان بولس واضحًا تماماً في إعلانه "لو أن المسيح لم يقم لكان تبشيرنا باطلاً، وإيماننا باطلاً" (1كور 15: 14)، و"لو لم يقم المسيح لكنا أشقى الناس أجمعين" (1كور 15: 17).
وأخيرًا، يمكننا أن نتساءل لماذا تغص صفحة الإنترنت المخصصة لهذا القبر بالرموز الماسونية، والباطنية وغيرها
بعد "شيفرة دافنتشي" وبعد "إنجيل يهوذا"، نحن اليوم أمام وثائقي وكتاب نُسِجَت فيهما، إنطلاقاً من حدث أركيولوجي عادي، قصة خيالية جوهرها التأكيد بأن يسوع ليس سوى إنسان عادي، تزوج وأنجب ومات ودُفِن، وأننا اليوم أمام برهان فناء جسده في مقبرة مع أفراد عائلته. والمقصود واضح: يسوع ليس الله المتجسّد، ولم يقم من الموت.
أراد المخرج، بحسب قوله، تأكيد وجود يسوع التاريخي، فاستعمل العهد الجديد كوسيلة يصل بها إلى حيث يريد، بدلاً من فهم أهدافه، وأولها: "لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات إنه ليس ههنا بل قام" (لو 24: 5-6). ليس هدف الوثائقي، والفيلم الذي سيترافق معه، إلا التشكيك بألوهية المسيح وبقيامته. هذا ما أصبح من عادات التلفزيون لموسم الصيام والفصح.
مريم المجدلية وعقدة زواجها بيسوع
تعترف الأناجيل القانونية الأربعة بأهمية دور مريم المجدلية في جماعة التلاميذ الذين كانوا يرافقون يسوع. لكن وجودها لا يسمح أبداً باستنتاج أي شكل من أشكال علاقات الحب الغرامية بينها وبين يسوع. ذكر الانجيل نساء عديدات تحت اسم مريم غير مريم أم يسوع: مريم أخت مرتا وليعازر؛ ومريم المجدلية الذي يـُقال أن يسوع أخرج منها سبعة شياطين، والتي رُبِطَت بالمرأة الخاطئة التي يقول لوقا بأنها أتت وبكت على قدمي يسوع عند سمعان الفريسي دون أي دليل على أن الأمر يتعلق بامرأة واحدة. فمريم المجدلية إمرأة من المجدل (مدينة على الشاطئ الغربي لبحيرة طبريا)، يذكرها الانجيليون الأربعة أكثر من اثنتي عشرة مرة في الانجيل، ويمكن التعريف عنها بالآتي: هي امرأة عانت طويلاً، وقد طرد منها المسيح سبعة شياطين (مر 16: 9؛ لو 8: 2)؛ هي إحدى النساء اللواتي رافقن يسوع في رسالته (لو 8: 2)؛ كانت شاهدة على صلب يسوع (مت 27: 56؛ مر 15: 40؛ يو 19: 25)؛ كانت حاضرة على وضع يسوع في القبر (مت 27: 61؛ مر 15: 47)؛ كانت ساهرة على القبر الفارغ ( مت 28: 1-10؛ مر 16: 1-8؛ لو 24: 10)؛ ظهر لها يسوع بعد قيامته بالقرب من القبر (مر 19: 9؛ يو 20: 1-18). جعل منها القديس يوحنا صورة للبشرية التي خلّصها الرب من كل الشرّ (سبعة شياطين)، والتي يدعوها بقيامته الى علاقة تتخطى المادة، الى علاقة ايمانية أبعد من المادة والملموس. ولا نجد في الكتب الغنوصية، أي إشارة الى زواج يسوع من مريم المجدلية، وبالطبع لا شيء عن وجود إبنة أو إبن له. فهذه النصوص كُتِبَت باللغة القبطية التي لا يمكن الإرتكاز عليها في فهم المعاني العبرية للمفردات؛ وهي تعود الى ما بعد القرن الثالث، فلا يمكن أن تساعدنا في فهم الإطار الإجتماعي والديني للقرن الأول. استَعملت هذه الكتب العبارات الجسدية للتعبير عن الروحيات، فكانت القبلة مثلاً تعبيرًا عن الكلام الإلهي الذي ينقله المسيح الى التلميذ الحبيب كما نقرأ في رؤيا يعقوب الثانية، حيث وصف للمسيح القائم من الموت، وهو يعطي أسراره الخفية الى يعقوب، مقبّـلاً إياه على فمه داعيُا إياه "حبيبي". فأن يكون انجيل فيلبس قد تكلم عن قبلة كهذه حصلت عليها مريم، فما ذلك سوى إقرار بأنها دخلت عمق المعرفة الإلهية. فيجدر بكل من يريد استعمال هذه الكتابات، الدخول في عمق المفاهيم الغنوصية ورموزها الصوفية.
شدّدت المسيحية دائماً على التمييز بين المحبة التي تعني حباً متجرّداً، والغرام الذي يتجسد مادياً بالعلاقات الجنسية. لكننا نجد لغة العشق في المحبة، فاستخدم التقليد الصوفي المسيحي عبارات الحب البشري للكلام عن علاقة الانسان بالله، وبهذه الروحية تكلم الصوفيون عن مريم المجدلية في كلامهم عن محبة الله، ما لم يفهمه البعديون عن هذه الخبرة الصوفية.
القبر الفارغ وقيامة الرب يسوع
تبدو قصة يسوع في كتاب العهد الجديد قصة رائعة تضع القارئ بحضرة رجل يعلن رسالة خلاص وسلام، فواجه الاضطهادات والموت بثقة، وانتهى مسمّرا على الصليب. عند هذا الحد يجد المؤرخ نفسه غير قادر على الوصول الى براهين واثباتات، لأنه لن يصل إلى الحياة الأبدية التي يحياها يسوع، والتي يبشر بها الإنجيل، الا من خلال تأثيراتها. في هذا الإطار تندرج نصوص العهد الجديد التي تعلن أن التلاميذ قد اكتشفوا قبر يسوع الفارغ في اليوم الأول من الأسبوع، وبأن يسوع قد تراءى للتلاميذ بعدما كان قد مات ودفن.
- اكتشاف القبر الفارغ علامة يجب شرحها: بحسب النصوص الانجيلية، للقبر الفارغ دور أساسي في الإيمان بقيامة يسوع. أكد الإنجيليون الأربعة بأنه عند "فجر الأحد" جاءت النساء إلى القبر واكتشفن القبر الفارغ (متى 28/1؛ مر 16/2؛ لو 24/1؛ يو 20/1). لكن هذا الحدث لا يشكل برهانا قاطعا على القيامة، فهو ليس إلا علامة تحضّر لترائي الرب الذي قام من الموت. يبقى القبر الفارغ إذاً علامة ظاهرة وغامضة يجب تفسيرها لإمكان شرحها بطرق مختلفة عدة. فمريم المجدلية تعلن " لقد أخذوا الرب" (يو 20/2 و 15)، والحراس اليهود يؤكدون "إن تلاميذه أتوا ليلا وسرقوه بينما كنا نياما" (متى 28/13). وحده تدخّل الرب القائم من الموت، في ترائياته، يحوّل العلامة الى آية تولّد الإيمان (لو 24/4).
- الترائيات هي الأهم: في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس، وقد كتبها بولس حوالى السنة 55/56، يحفظ الرسول أقدم شهادة نملكها حول الايمان بالمسيح القائم من الموت: "أذكركم أيها الأخوة بالبشارة التي حملتها لكم وقبلتموها ولا تزالون ثابتين عليها وبها تخلصون... وإلا فأنتم آمنتم باطلا... سلّمت إليكم قبل كل شيء ما تلقيته وهو أن المسيح قد مات...، وأنه دفن وقام في اليوم الثالث...، وأنه ظهر لبطرس ثم للرسل الاثني عشر، ثم ظهر لأكثر من خمسمئة أخ معا معظمهم حيّ وبعضهم ماتوا، ثم ظهر ليعقوب، ثم لجميع الرسل، حتى ظهر لي...". ومن الواضح أنه قد حصلت ترائيات أكثر مما تعلن النصوص الإنجيلية، فبولس لا يذكر مثلاً الترائي للنساء. اختار بولس ما وجده الأكثر إقناعا: ان المسيح حيّ، فلم يأتِ على ذكر برهان "القبر الفارغ"، الذي يذكره الإنجيليون كلهم عليه.
كتب لنا الانجيليون: "لنتيقّن صحة ما تلقّينا من تعليم عن يسوع المسيح" هذا ما أكّده لنا القديس لوقا، فهل كل هؤلاء المتبرّعين لشرح معنى القبر إنجيليون جُدد ولو دون إيمان بالرب القائم من الموت وقـانا الله شـرّ انجيليين من هذا النوع يبحثون عن الثروة بكل الوسائل. وأعطانا نعمة الدخول في سرّ الرب يسوع، وفهم كلامه وموته وقيامته لنقل البشرى السارة، والرجاء الصالح في كل الأرض.
الأخت باسمة الخوري هي أستاذة الكتاب المقدس في جامعة الروح القدس-الكسليك (لبنان).
عن جريدة "النهار" اللبنانيّة، الاحد 8 نيسان 2007 - السنة 74 - العدد 22968، صفحة "قضايا النهار".