الحياة الرهبانية

مقدمة تاريخية

هل الرهبنة شذوذ
وهل الرهبنة والنسك تطرف زائد
عن العقول البشرية
من يجيبنا عن هذه الأسئلة أنت أم أنا أو لعل الرهبان أنفسهم يجاوبون عن هذه الأسئلة.
الرهبنة والنسك قديمان من عصور ما قبل المسيح فقد كان لليهود رهبانهم ونساكهم كالقديس يوحنا المعمدان الناسك في برية الأردن ولنعلم أن الله هو مؤسس الرهبنة وهي من لدن الله خرجت لتعود بناظميها إلى لدن الله.



صدرت آلاف الأفكار المعارضة من أشخاص ليس لديهم أدنى فكرة حول محور الرهبنة والمحزن أننا نجد بعض من يدعون ظلماً وتعسفاً بأنهم مسيحيون وهي منهم براء يروجون لأفكار الملحدين حول الرهبنة.


ان المسيحي الحق ليحزن عندما يرى الجهالة تدوس لآلىء التقليد التي لا تقاس بثمن التي تسلمناها من الرسل ولكننا نعلم أن الجهل هو مصدر كل الشرور حسب تعليم الآباء الرهبان القديسين ويؤكد القديس مرقس الناسك أنها منبع الشر الرئيسي ويحدد آخر أن الجاهل يجهل جهالته ويكتفي بمعرفته. بداية كان الرهبان يتجمعون في المدن قرب الكنائس ودور المطارنة والبطاركة[1] ومن هؤلاء الرهبان رهبان القديس مرقس الإنجيلي أول بطريرك على الاسكندرية الذي عاشوا قرب الدار البطريركية. نجد في عدة سير قديسين من عصر الرسل وجوداً للنساك كالقديسة افجانية الشهيدة فوجد في مصر دير لبس فيه الأسقف الياس الثوب الرهباني.

وفي سوريا القديسة افدوكيا التي عاشت في بعلبك فينيقيا اهتدت إلى المسيحية عن طريق رئيس دير وبعد ذلك عاشت في دير فيه 30 راهبة.

وفي آخر سنين القرن الثالث أسس أنطونيوس الكبير أب الرهبان الرهبنة في الصحراء وأسس القديس باخوميوس حياة الشركة الرهبانية ونظمها القديس باسيليوس الكبير بعده, وأسس القديس مكاريوس الكبير الهدوئية في صحراء الاسقيط وصار مصدراً لكلمة Skite. انتقلت الرهبنة في القرن الرابع إلى الصحارى المهجورة غير أن الأديرة بقت في المدن ولكن مع الأسف كل تاريخ الكنيسة أُتلف في القرن السابع على يد العرب المسلمين.هاجرت الرهبنة بعد أن توقفت أعمال الاضطهاد ودافعت الدولة عن المسيحيين ونشرت التعليم المسيحي فلم يحافظ المسيحيون على تفاني أجدادهم بل صاروا يهتمون بأمور الجسد وشهواته فرأى المختارون الذين صاروا قلة بأن هذه الأعمال هي إنكار روحي للسيد له المجد لذلك أصبحت الصحراء ملجأً طبيعياً للباحثين عن الهدوء وسط ضوضاء العالم وهي مفيدة لحفظ قوة المسيحية الكاملة, بعد انتقالهم إلى الصحراء اعتمد الرهبان لباساً خاصاً لتمييزهم عن العلمانيين[2]

وعانت رهبنتنا الشرقية بعد القرن السابع وهو وقت دخول العرب المسلمين إلى البلاد تفاوتاً في الازدهار فبعضها استمر واندثر آخرون نتيجة لمحاربة الإسلام للرهبنة وتحول العديد من المؤمنين الذين ليسوا بمختارين إلى الإسلام فهي قد اندثرت تماماً في القرن الرابع عشر ما خلا الرهبنات القائمة على مزارات تقليدية كدير السيدة في صيدنايا ودير مار تقلا في معلولا.


ومؤخراً نتيجة لسفر بعض طلاب البلمند إلى اليونان وتعرفهم إلى الأب اسحق والأب باييسيوس الآثوسيين وإلى جبل آثوس وتراثه الروحي ورغبوا بنقل هذه الحياة الرهبانية إلى بلادنا الحبيبة فكانت نهضة روحية أعادت الرهبنة إلى أديار عديدة وبنت أديار جديدة عديدة. لن نتحدث عنها لكثرة ما قيل وكتب عنها ولكن نشكر الله الذي سمح بعودة الرهبنة إلى ديارنا ورهبنتنا حديثة لذلك تقل الخبرة الآبائية.


الراهب لغوياً

الراهب (Monachose), الدير, الرهبنة, جاءت كلها من كلمة يونانية (Monos) أي واحد فالراهب هو الشخص الذي يعيش لوحده في قلايته أو في الصحراء. الدير هو بيت منعزل والرهبنة هي الحياة المنعزلة وتختلف الحياة الرهبانية عن الحياة التي نعيشها في العالم. وهناك أنماط عديدة للرهبنة كحياة الشركة وحياة الاسقيط والنسك والحبس والذين يعيشون في البرية والذين لا ينامون.


حياة الشركة: العيش المشترك لعدد غير قليل من الرهبان يشتركون في الأسرار وفي تناول الطعام واللباس والصلاة ويطيعون رئيساً واحداً.

حياة الاسقيط: هي أن يحيا اثنان أو ثلاث رهبان في قلاية واحدة يستشيرون بعضهم بعضاً أو يسترشدون بالمتقدم بينهم ويشتركون بالطعام واللباس الواحد ويقومون بفروضهم خمسة أيام في قلايتهم ويومي السبت والأحد في كنيسة الاسقيط مع بقية الإخوة.

الناسك: هو الراهب الذي يعيش منفرداً.

الحبيس : هو الراهب الذي يعيش متوحداً في قلاية الدير دون أن يخرج منها.

الناسك السائح: هو المتوحد الذي يعيش في برية خالية من السكان.

الهدوئي: هو من يحيا في الهدوء في عزلة عن العالم ويكرس ذاته كلياً لله وجهاده هو أن يأتي بذهنه إلى قلبه.

لباس الراهب

يرتدي الراهب لباساً أسود اللون وصفه القديس يوحنا كاسيان في بداية كتابه حول الأنظمة الرهبانية. ويبدأ

الزنار وهو رمز للعفة والطهارة (البتولية) وللتجنيد للمسيح

الغمباز(الكولوبيوم) وهو القميص الأسود ويرمز إلى الانفصال عن العالم وإلى الحداد والموت بالنسبة للعالم.

المانتيليون: وهو معطف بدون أكمام يربط عند الرقبة وقد تحول الآن إلى الجبة ويرمز إلى ارتداء المتوحد لمجد آدم الأول الذي نزع عنه بعد السقوط.

الكوكلس: القبوعة وقد تحولت الآن إلى الكاميلافكيون ويرمز إلى براءة وبساطة الأطفال فالراهب المتوحد هو مولود جديد في المسيح.

الأنالافون: الذي يرسم عليه الصليب ويحمله المتوحد على ظهره ليلاً ونهاراً يرمز إلى حقيقة صلب العالم للمتوحد والمتوحد للعالم.

الحذاء: للتقدم والسير في طريق الإنجيل.

المسبحة: سيف الروح وعلى المتوحد أن يحفظ اسم الرب يسوع عن طريقها.

غاية الرهبنة

في البدء كانت الحمية للرب تدفع الناس إلى عيش وصايا الإنجيل ولكن بعدما هدأ الاضطهاد صارت حميتهم أقل فصاروا يهتمون بأمور الجسد والشهوات مما اعتبره الآباء إنكاراً روحياً للمسيح.


وبنتيجة ذلك صار الرهبان يهربون للحفاظ على حياتهم الهدوئية بعيداً عن ضوضاء العالم, نحو الاشتهاء الكامل فنحن كمسيحيين أولاً وأخيراً لا نشتهي إلا الرب يسوع ورؤيته وهو ما يتحقق لنا بالرهبنة ويمكن أن يتحقق في إطار الحياة العائلية وهما الطريقتان المؤديتان إلى الفردوس.


هناك أناس قادرون على عيش وصايا الرب وهم في العالم وأولئك لمغبوطون ولكن أكثر الناس لا يقدر على ذلك في عالم مليء بالشهوة والإباحية والملذات الدنيوية كعالم اليوم فهؤلاء يهربون إلى الأديرة والبراري طلباً لرؤيا وجه الرب يسوع.


فغاية الرهبنة
هي نفس غاية الحياة المسيحية للإنسان ولا بد من الجهاد القاسي والقاسي جداً كي نصل إليها فطوبى لمن اختار الحياة الملوكية (الرهبنة) وطوبى لمن اختار الحياة الأميرية (الزواج) ولكن عند الإمبراطور (الرب) الملوك لأرفع من الأمراء ونستدل على ذلك من الحوار الذي دار بين كل من القديس باييسيوس الكبير حبيب الرب والقديس قسطنطين الكبير المتوج من الله أثناء ظهور ذاك الأخير له.

غادر محبي الكمال العالم ونسكوا في الصحارى وعلى قمم الجبال وبين أغصان أشجار الأدغال, هرعوا إلى الصحراء المهجورة "ليصلبوا الجسد بكل ما فيه من أهواء وشهوات" (غلا 24:5)


ابتكر الرهبان لأنفسهم طريقة حياة مختلفة, فيتحملون آلاف المحن, يصومون, يقاومون الشياطين, يرغمون جسدهم على مقاومة الأعداء غير المتجسمين كما يقول القديس يوحنا كولوفوس.

إن الراهب يهرب بعيداً عن العالم لا كرهاً له بل حباً به وبهذا الأسلوب بصلاته سيساعد العالم في حل قضاياه التي لا تتم إلا بتدخل إلهي, فغاية الراهب ليست الاهتمام بالأعمال الكثيرة ولا امتلاك الأموال الطائلة لأن هذا انهيار روحي ولا يتركون البرية للذهاب إلى المشفى لأن هذا لعامة المؤمنين كما أن هؤلاء المؤمنين سيسألون عنه يوم الدينونة الرهيب.

الرهبنة والاستشهاد:

كلاهم لم يصنعهما بشر, فهما من أحكام الإنجيل خرجا, أسسهما الرب يسوع. فنحن نقرأ في سير كبار النسك كأنطونيوس وثيوذوروس ومكاريوس وباييسيوس حبيب الرب وجراسيموس الناسك الجديد ومريم المصرية والعديد من البطاركة الذين عاشوا رهباناً وقد كانوا قبل بطريركيتهم نساكاً كالقديس يوحنا الذهبي الفم وكثيرون غيرهم ممن كانت جهاداتهم تفوق الطبيعة أنهم كانوا بحاجة إلى نعمة الرب ومساندته لبلوغ النجاح وهذا ما نلمسه لدى قراءتنا سير كبار الشهداء كجيورجيوس المعظم في الشهداء وديمتريوس وبندلايمون وكاترينا وبربارة أيضاً.