اعتاد الإنجيلي يوحنا أن يشير إلى المعجزات التي لم يشر إليها أحد الإنجيليين الثلاثة الآخرين، ما عدا هذه المعجزة، فقد تحدث عنها الإنجيليون جميعًا. ففي كل الجوانب متى قُدم السيد المسيح كملك (إنجيل متى) أو خادم للبشرية (إنجيل مرقس) أو صديق لها (إنجيل لوقا) أو ابن الله الذي يهب البنوة للبشرية (إنجيل يوحنا) ما يبغيه الإنجيل هو إشباع احتياجات الإنسان من كل الجوانب.
هذا وقد اهتم الإنجيلي بهذه المعجزة لكي يورد الحديث الطويل الملحق بها والخاص بتقديم المسيح نفسه خبزًا نازلًا من السماء، فنشبع به بكونه الكلمة الإلهي، كما يقدم لنا جسده ودمه المبذولين عنا غفرانًا للخطايا وحياة أبدية.
"بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل،
وهو بحر طبرية". [1]
حدد الإنجيلي المكان والزمان لعمل المعجزة وكل الظروف المحيطة بها كشهادة على حقيقة القصة لما لها من أهمية تمس حياة الكنيسة عبر الأجيال.
مضي يسوع إلى عبر بحر الجليل وهي بحيرة طبرية، تُدعى في موضع آخر جنيسارت. وتُدعى هنا بحر طبرية Tiberias نسبة إلى مدينة تقع على الجانب الغربي من البحيرة قام هيرودس مؤخرًا بتوسيعها وتجميلها، ودعها على اسم الإمبراطور طبريوس Tiberius تكريمًا له، ويحتمل إنه جعلها عاصمته. لم يعبر السيد البحر وإنما جعل رحلته عبر البحر، أي على ساحلها.
يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح انصرف من أورشليم، وعبر إلى الضفة الأخرى من بحيرة طبرية تحاشيًا لبغضه عديمي الإيمان له، وأنه فعل ذلك اختياريًا وليس قسرًا. إنه يعلمنا الهروب من هجمات الشر، ليس خوفًا من الموت، وإنما حبًا في مضايقينا.
* لسنا نسعى من أجل خيرنا بل من أجل خير الآخرين أيضًا. عمل المحبة ليس في تصدي الذين يريدون الشر بنا، ولا في الاكتفاء بما نعاني ما يحل بنا، فنثير فيهم الغضب المرير بسبب عجزهم عن السيطرة على ما يكرهونه. فالمحبة لا تطلب ما لنفسها كما يقول بولس (١ كو ١٣: ٥). هذا ما كان في المسيح بشكل واضح.
القديس كيرلس الكبير
* ليتنا أيها الأحباء لا نتنافس مع العنفاء، بل نتعلم أنه حينما يفعلون هذا لا يسيئون إلي فضيلتنا بسبب مشوراتهم الشريرة، وإنما يُكبح عملهم العنيف وكما أن السهام إن سقطت علي جسم ثابت قوي ومقاوم ترتد بقوةٍ عظيمة علي من ألقوها، فلا يجد عنف الذين ألقوها من يعارضهم، هكذا أيضًا بالنسبة للمتغطرسين، عندما نصارع معهم يزدادون شراسة، ولكن حين نخضع وننحني أرضًا بسهولة نبطل جنونهم. لذلك عندما عرف الرب أن الكتبة والفريسيين قد سمعوا أن يسوع صار يعمد تلاميذ أكثر من يوحنا ذهب إلي الجليل ليطفئ من حسدهم ويهدئ بانسحابه غضبهم الذي هاج بالتقارير التي وصلتهم. وعندما رحل للمرة الثانية إلي الجليل لم يذهب إلى ذات المواضع التي ذهب إليها قبلًا، إذ لم يذهب إلي قانا بل إلى "عبر البحر"[659].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هذا ويرى القديس كيرلس الكبير أن العبور إلى الضفة الأخرى يحمل رمزًا لعبور الكرازة بالسيد المسيح من اليهود إلى الأمم، فلا يمكنهم العبور إليه بسبب عدم إيمانهم به.
* معبر البحر الذي يفصل بين الجانبين يشير إلى صعوبة عبور اليهود، بل بالأحرى استحالة سيرهم في الطريق المؤدية إليه، إذ يعلن الله أنه يسيّج طرق النفس الشريرة، قائلًا في الأنبياء: "هأنذا أسيّج طريقها بالشوك... حتى لا تجد مسلكها" (هو ٢: ٦). فما يُشير إليه الشوك هناك يشير إليه البحر هنا، إذ يفصل المُهان عن الذين أهانوه بلا هوادة، والمقدس عن النجس.
القديس كيرلس الكبير
"وتبعه جمع كثير،
لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى". [2]
لم يذكر القديس يوحنا معجزات الشفاء هذه، فقد أوردها الإنجيلي متى في شيء من التفصيل (مت ١٢: ٢؛ ١٤: ١٣). التفت الجماهير حوله، وكانوا يشتاقون إلى التعرف عليه من أجل كثرة ما فعله. أما بالنسبة للسيد المسيح فلم يكن هذا الجمهور يمثل تكريمًا له، وإنما يمثل حق عمل لتقديم كلمة الحق ولخدمتهم حتى يتمتعوا بالشركة معه.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي هذه العبارة موضحًا أن ما ورد هنا لا يشير إلى أصحاب عقول حكيمة جدًا، لأنهم انجذبوا بالمعجزات أكثر من التعليم، مع أن الآيات هي لغير المؤمنين وليس للمؤمنين.
"فصعد يسوع إلى جبل،
وجلس هناك مع تلاميذه". [3]