أنا هو الخبز الحي

"أجابهم يسوع وقال:

الحق الحق أقول لكم أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات،

بل لأنكمأكلتم من الخبز فشبعتم". [26]

كثيرون لا يطلبون من الله إلاَّ أن تمتد يداه لتقدم لهم احتياجاتهم الزمنية؛ قليلون يشتهون اللقاء مع الله من أجل الله نفسه. كثيرون يطلبون من الله الخبز الرخيص لا الحب الثمين.الخبز النازل من السماء (خر 16: 4؛ نح 9: 15؛ مز 78: 24؛ مز 105: 40).

يركز على أنه واهب الخبز على مستوى عطية الآب لا على مستوى موسى [32]؛ وأنه هو اللَّه العطية "الخبز النازل من السماء. إنه يقوت الإنسان بكونه الحكمة الإلهية (أم 9: 1-5).

إنه واهب الخبز، أعظم من موسى.

هو الخبز النازل من السماء.

هو الخبز المشبع بكونه حكمة اللَّه.

خبز أفخارستي واهب الحياة الأبدية.

* الأسلوب اللين اللطيف ليس دائمًا نافعًا، بل توجد أوقات حين يحتاج المعلم إلي استخدام لغة حادة... فعندما جاءت الجماهير ووجدت يسوع وتملقته بالقول: "يا معلم متى صرت هنا" (يو 6: 25). فلكي يظهر أنه لا يطلب كرامة من بشرٍ إنما يتطلع إلي أمرٍ واحدٍ وهو خلاصهم، أجابهم بحدة، لكي يصحح موقفهم لا بهذه الطريقة فحسب بل وبالكشف والإعلان عن أفكارهم[682].

* وبخهم بكلامه، ولكنه عمل هذا برفق وإشفاق، لأنه لم يقل لهم: يا أيها الشرهون في الأكل، يا عبيد بطونكم، قد صنعت عجائب هذا مقدارها فلم تأتوا ورائي، ولا تعجبتم لأعمالي". لكنه خاطبهم بلطفٍ ورقةٍ، قائلًا: "تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم"[683].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يلزمنا أن نطيع المسيح ونحبه، لا للحصول على الخيرات الجسدية بل لكي ننال منه الخلاص.

القديس كيرلس الكبير

* نادرًا ما يُطلب يسوع من أجل يسوع نفسه[684].

القديس أغسطينوس

"اعملوا لا للطعام البائد،

بل للطعام الباقي للحياة الأبدية،

الذي يعطيكم ابن الإنسان،

لأن هذا الله الآب قد ختمه". [27]

ختمه الآب ليقوم بعمل المصالحة، وليقبل نيابة عن المؤمنين الروح القدس ويستقر عليه. إنه قد ختم لكي نُختم نحن جميعًا فيه ونُحسب مسحاء لله.

* كأنه يقول لهم: إنني غذيت أجسادكم لكي تلتمسوا الطعام الآخر الباقي المغذي أنفسكم، أما أنتم فقد أسرعتم إلى الطعام الأرضي، فلهذا لست أقتادكم إلى هذا الطعام الأرضي، بل إلى ذلك الطعام الذي ليس من شأنه أن يقدم حياة وقتية بل أبدية، المغذي أنفسكم لا أجسادكم.

* ليس شيء أردأ وأكثر خزيًا من النهم، فإنه يجعل الذهن دنيئا والنفس جسدانية؛ إنه يسبب عمى، فلا يرى الشخص جيدا[685]

* "هذا الله الآب قد ختمه" [27] بمعنى "أرسله لهذا الهدف أن يحضر لكم طعامًا". تعلن الكلمة أيضًا تفاسير أخرى إذ يقول المسيح في موضع آخر: "ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق" (يو 3: 33)... يبدو لي هذا القول أنه يلمح هنا عن "الآب ختم" ليس ألا أنه "أقر" أو" أعلن بشهادته". فالمسيح في الحقيقة أقر عن نفسه، ولكنه إذ كان يحاور اليهود قدم شهادة الآب له[686].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* من يقدر أن يعطي الناس طعامًا يحفظهم إلى حياة أبدية فإن هذا الأمر غريب تمامًا على طبيعة الإنسان. يليق بذاك الذي هو إله فوق الجميع.كأنه يقول: "أنا لست عاجزًا عن أن أعطيكم طعامًا يمكن أن يدوم ويثمر إلى حياة أبدية وفرح أبدي، لأنه بالرغم من أني أبدو كواحدٍ منكم، أي إنسان له جسد، إلاَّ إنني مُسحت وخُتمت من الله الآب للماثلة معه.

القديس كيرلس الكبير

* ما هو الختم(يو 6: 27)إلا وضع علامة معينة أن تختم يعني أنك تضع علامة على الشيء لكي لا يحدث لبس بينه وبين شيء آخر...

إذن "الآب ختمه"... أي منحه أمرًا معينًا جعله ليس موضوع مقارنة مع بقية البشر. لذلك قيل عنه: "اللَّه إلهك قد مسحك بزيت البهجة، فوق كل زملائك" (مز 45: 8). ماذا إذن "يختم" سوى أنه يكون مستثنى من الآخرين

هذا هو أهمية "فوق كل زملائك". يقول: "هكذا لا تحتقرني لأني ابن الإنسان، بل لتطلب مني لا الطعام البائد بل الباقي للحياة الأبدية. لأني ابن الإنسان بطريقة بها لست واحدًا منكم. أنا ابن الإنسان بطريقة بها الآب ختمني... أعطاني شيئًا خاصًا بي، فلا يحدث لبس بيني وبين البشرية، إنما تخلص البشرية بي[687].

القديس أغسطينوس

"فقالوا له:

ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله" [28]

إذ سألهم أن يعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية سألوه كيف يتممون الأعمال الإلهية، أو الأعمال التي حسب مسرة الله. ماذا يُطلب منهم أكثر من طاعتهم للناموس هل الناموس ناقص ويوجد ما هو أفضل منه

يقول القديس أغسطينوس أن السيد المسيح أوصاهم ألا يطلبوا الطعام البائد بل الباقي للحياة الأبدية، لذلك سأله الجمع: "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال اللَّه[28]. كأنهم يسألونه: كيف ننفذ هذه الوصية وجاءت الإجابة هي: الإيمان بالذي أرسله.

الإيمان يجعل أعمالهم مقبولة لدى اللَّه. لم يرد السيد أن يميز بين الأعمال والإيمان بل أن يعلن أن الإيمان نفسه هو عمل. إنه الإيمان العامل بالمحبة (غلا 5: 6).

* لم يكن سؤالهم (يو 6: 28) بقصد صالح، ويمكننا أن نفترض أنه لم يكن نابعًا عن رغبة في التعلم، بل بالأحرى كان نتيجة كبرياء زائد. وكأنهم يحجمون عن تعلم شيء أكثر مما كانوا يعرفونه فعلًا.

كأنهم يقولون: "يكفينا أيها السيد الصالح كتابات موسى، فنحن نعرف أكثر مما نحتاج عن تلك الأمور التي ينبغي على الماهر في أعمال الله أن يقصدها، فما الشيء الجديد الذي ستزودنا به إذن بالإضافة إلى تلك الأمور التي كانت قد حُددت في ذلك الزمان وأي شيء غريب ستعلمنا إياه ولم يكن قد انكشف لنا من الكلمات الإلهية"

كان التساؤل من قبيل الحماقة، وليس بدافع الإرادة النشطة.

القديس كيرلس الكبير

* لم يقولوا هذا لكي يتعلموا ويعلموا (كما يظهر مما جاء بعد ذلك)، وإنما لكي يقدم لهم طعامًا مرة أخرى[688].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"أجاب يسوع وقال لهم:

هذا هو عمل الله:

أن تؤمنوا بالذي هوأرسله". [29]

جاءت الإجابة إنه ينقصهم أمر واحد، هو من صميم الناموس، وهو أن يؤمنوا به، بكونه المسيا الذي أشار إليه الناموس، بكونه مخلص العالم الذي أفسدته الخطية.

كلمة الإيمان هنا تحمل معنى الإيمان العملي الحي، حيث يلتصق به المؤمن ويتبعه في طريق الصليب.

* كان من الضروري أن يريهم أنهم كانوا لا يزالون بعيدين جدًا عن العبادة المرضية لله، وأنهم لا يعرفون شيئًا عن الأمور الصالحة الحقيقية. فإذ يلتصقون بحرف الناموس صار ذهنهم مملوء بالرموز والأشكال المجردة...

إن العمل الذي تمارسه النفس النقية هو الإيمان المتجه نحو المسيح.

والأسمى من ذلك بكثير هي الغيرة في أن يصير الإنسان حكيمًا في معرفة المسيح أكثر من الالتصاق بالظلال الرمزية.

القديس كيرلس الكبير

"فقالوا له:

فأيةآية تصنع لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل" [30]

طلب اليهود من السيد آية ليؤمنوا به، فهل حسبوا إشباع الجمهور البالغ عدد الرجال بينهم حوالي 5000 نسمة بخمس خبزات شعير وسمكتين آية تافهة

طلبوا منه معجزة تضاهي التي حدثت في أيام موسى حيث أكل آباؤهم المن في البرية، أكلوا خبزًا نازلًا من السماء. لقد رأوا معجزة إشباع الجموع بخمس خبزات وسمكتين ولم يؤمنوا. لم يكن ممكنًا أن يروا أعظم من هذا لكن أذهانهم لم تعد قادرة على إدراك الحق.

"آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب،

أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا". [31]

"فقال لهم يسوع:

الحق الحق أقول لكم،

ليس موسىأعطاكم الخبز من السماء،

بلأبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء". [32]

لكي يدركوا الحق كشف لهم عن أعماق عمل الله مع آبائهم حين عالهم في البرية أربعين عامًا بالمن النازل من السماء:

1. ليس موسى بل الله هو الذي أعطاهم المن.

2. لم يكن المن هو الخبز الحقيقي إنما هو رمز له.

3.الآن يقدم لهم الله الخبز الحقيقي الذي لا يُقارن به المن قط.

4. إنه هو الخبز الحقيقي النازل من السماء، والذي من أجله أُعطي لآبائهم المن رمزًا له.

* بمنتهى الغباوة يتَّوجون هامة موسى بهذا العمل (نزول المن من السماء)، لهذا يطلبون من المسيح آية مساوية لتلك الآية، دون أن يبدوا أي إعجاب على الإطلاق بالآية التي أراهم ليومٍ كاملٍ، حتى وإن كانت عظيمة، لكنهم يقولون إن عطية الطعام عليها أن تمتد لهم زمنًا طويلًا. لهذا نراه يخزيهم بشدة جدًا ليقروا ويقبلوا أن قدرة المخلص وتعليمه الذي هم على وشك قبوله هما الأكثر مجدًا.

* الآن أيضًا يقول لهم المخلص إنهم لا يفهمون، وأنهم يجهلون إلى أبعد حد ما في كتابات موسى. لأنه كان الأحرى بهم أن يعلموا في جلاءٍ تامٍ أن موسى كان يخدم أمور الله للشعب، وأيضًا أمور بني إسرائيل تجاه الله، وأنه لم يكن هو نفسه صانع عجائب، بل بالأحرى كان خادمًا وفاعلًا في خدمة تلك الأمور... فلنتعلم إذن بأكثر تمييز وتعقل أن نحترم آباءنا القديسين... لكن حين يكون الحديث عن المسيح المخلص علينا أن نقول: "مَنْ في السماء يعادل الرب من يشبه الرب بين أبناء الله" (مز ٨٩: ٦).

القديس كيرلس الكبير

* كان يمكنه أن يجيبهم: "أنا الآن أصنع عجائب أعظم مما فعلها موسى، فلا احتاج إلى عصا، ولا إلي صلاة، بل أفعل كل شيء من نفسي، وإن كنتم تذكرون المن انظروا فإني أعطيكم خبزًا. لكنه لم يكن ذلك الوقت مناسبًا لمثل هذه الأحاديث، فإن الأمر الوحيد الذي كان يرغبه بغيرة هو أن يقدم لهم طعامًا روحيًا. انظروا إلي حكمته غير المحدودة، وأسلوب إجابته![689]

* قول المسيح لليهود: "ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء"، إذ أن المّن ليس هو من السماء، فكيف يقال أنه من السماء إنما قيل ذلك كما يُقال "طيور السماء"، و"أرعد الرب من السماء".

وقوله: "الخبز الحقيقي من السماء"، إذ أن المسيح هو الخبز الحقيقي، ليس لأن الأعجوبة الخاصة بالمن كانت كاذبة، لكن لأنها كانت رسمًا ولم تكن الحقيقة بذاتها.

* لماذا لم يقل: "ليس موسى أعطاكم هذا بل أنا"، وإنما وضع الله موضع موسى وهو نفسه موضع المن ذلك من أجل الضعف الشديد لسامعيه... لقد قادهم المسيح إليه قليلًا قليلًا[690].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* وعدهم يسوع بشيءٍ أعظم مما أعطاهم موسى. حقًا بموسى كان الوعد بملكوت، بأرضٍ تفيض لبنًا وعسلًا، بالسلام المؤقت، بكثرة الأبناء وصحة الجسد، وكل الأمور الأخرى التي للخيرات الوقتية، لكنها تحمل رمزًا روحيًا... كان الوعد بملء البطن على الأرض بالطعام الزائل، أما الآخر (يسوع) فيعد لا بالطعام الزائل بل بالطعام الباقي للحياة الأبدية[691].

القديس أغسطينوس

"لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم". [33]

* في غباوة شديدة تفترضون أن المن هو الخبز النازل من السماء، بالرغم من أن المن قد أطعم جنس اليهود فقط في البرية، بينما يمتد العالم بأمم أخرى لا حصر لها... لكن حين أشرف زمان الحق على أبوابنا، "أبي يعطيكم الخبز الحقيقي الذي من السماء"، والذي كانت عطية المن ظلًا له في القديم. فهو يقول: لا يظن أحد أن ذاك المن كان بالحق هو الخبز من السماء، بل بالأحرى لصالح هذا الخبز القادر أن يطعم الأرض كلها، ويمنح العالم ملء الحياة.

المن الحقيقي هو المسيح ذاته، مُدركًا باعتبار أن الله الآب قد أعطاه تحت رمز المن للذين كانوا في القديم.

"وخبز السماء أعطاهم، أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز ٧٨: ٢٤)... واضح للجميع أنه لا يوجد خبز وطعام للقوات العقلية في السماء سوى ابن الله الآب الوحيد. إذن فهو المن الحقيقي، والخبز الذي من السماء لكل الخليقة العاقلة الذي يعطيه الله الآب.

يعدنا المسيح أن يهبنا الطعام الذي من السماء، أي التعزية بواسطة الروح، أعني المن الروحي. بهذا بالمن نتقوى على احتمال كل مشقةٍ وعزمٍ، وإذ نحصل عليه لا نسقط بسبب عجزنا في تلك الأمور التي ينبغي إلا ننحدر إليها.

كان الأجدر بهم أن يعرفوا أن موسى قد جلب فقط خدمة الوساطة، وأن العطية لم تكن من صنع يدٍ بشريةٍ، بل هي من عمل النعمة الإلهية، فتضع الروحي داخل إطار مادي كثيف، وعبَّر لنا عن الخبز الذي من السماء، الذي يعطي حياة لكل العالم، ولا يُطعم جنسًا واحدًا فقط.

القديس كيرلس الكبير

* لم يقل أنه لليهود وحدهم بل لكل العالم، ليس طعامًا مجردًا بل الحياة، حياة أخري متغيرة. لقد دعاه"حياة" لأن الكل كانوا أمواتًا في الخطايا[692].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فقالوا له:

يا سيدأعطنا في كل حين هذا الخبز". [34]

كان اليهود يتوقعون بمجيء المسيا ينعمون مع السلطة والحكم والحرية كل أنواع الملذات الزمنية. قال الحاخام ميمونRab. Mayemon إنه متى جاء المسيا يقيم الأموات، فيجتمعون في جنة عدن، ويأكلون ويشربون ويصيرون في تخمة كل أيام العالم. تُبنى بيوتهم بالحجارة الكريمة، وأسرتهم بالحرير الناعم، وتفيض الأنهار بالخمر والزيت المخلوط بالتوابل. سينزل المن عليهم له مذاقات متنوعة، ويجد كل إسرائيلي في طبقه ما يلذ له. إن اشتهى السمين وجده. يذوقه الشاب فيجده خبزًا والشيخ يجده عسلًا والأطفال زيتًا. هكذا ستكون أيام المسيح القادمة. سيهب إسرائيل سلامًا ويجلس في جنة عدن[693]...

* بينما كان مخلصنا المسيح وبكلمات كثيرة - إن جاز للمرء أن يقول - يجذبهم بعيدًا عن التصورات الجسدانية، وبتعليمه الكلي الحكمة يحلق في التأمل الروحي، فإنهم لا يبتعدون عن منفعة الجسد. وإذ يسمعون عن الخبز الذي يعطي حياة للعالم يصورون لأنفسهم خبز الأرض "لأن إلههم بطنهم" (في ٣: ١٩)، كما هو مكتوب. وإذ ينهزمون بشرور البطن يستحقون سماع القول: "مجدهم في خزيهم".

القديس كيرلس الكبير

"فقال لهم يسوع:

أنا هو خبز الحياة،

من يقبلإلي،ّ فلا يجوع،

ومن يؤمن بي، فلا يعطشأبدًا". [35]

اعتاد السيد المسيح في أحاديثه الأخرى أن يقدم شهودًا أنه يعلن الحق، تارة يعلن أن الآب يشهد له، وأخرى يقتبس نبوات الأنبياء، وأخرى يقدم آياته وعجائبه. أما هنا فكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[694] لم يورد شهودًا وهو يعلن عن نفسه أنه الخبز النازل من السماء، لأنهم شاهدوا ولمسوا كيف أشبعهم بخبزات قليلة. يقول القديس إنه يعلن عن لاهوته، فمن يقترب إليه يشبع ولا يجوع قط.

* قال لهم "أنا هو خبز الحياة" [35] لكي يوبخهم، لأنهم عندما ظنوا الطعام عاديًا جروا إليه، وليس عندما تعلموا أنه من نوع روحي[695]

القديس يوحنا الذهبي الفم

* الآن أنا حاضر أحقق وعدي في حينه. "أنا هو خبز الحياة"، ليس خبزًا جسدانيًا، فهو لا يسد الإحساس بالجوع فقط، ويحرر الجسم من الهلاك الناشئ عنه، بل يعيد تشكيل كل الكائن الحي بأكمله إلى حياة أبدية. ويصير الإنسان الذي خلقه ليحيا إلى الأبد سائدًا على الموت. يشير بهذه الكلمات إلى الحياة والنعمة التي ننالهما بواسطة جسده المقدس، الذي به تنتقل خاصية الابن الوحيد هذه، أي الحياة.

* حينما دُعينا إلى ملكوت السماوات بالمسيح - لأن ذلك حسب ظني هو ما يشير إليه الدخول إلى أرض الموعد، فإن المن الرمزي لم يعد بعد يخصنا، لأننا لسنا نقتات بعد بحرف موسى، بل لنا الخبز الذي من السماء، أي المسيح، هو يقوتنا إلى حياةٍ أبديةٍ، بواسطة زاد الروح القدس، كما بشركة جسده الخاص، الذي يسكب فينا شركة الله، ويمحو الموت الذي حلّ بنا من اللعنة القديمة.

* إني اتفق معكم أن المن قد أُعطي بواسطة موسى، لكن الذين أكلوا آنذاك جاعوا. وأقر معكم أنه من جوف الصخرة خرج لكم ماء، لكن الذين شربوه قد عطشوا، وتلك العطية التي سبق الحديث عنها لم تعطهم سوى تمتعًا مؤقتًا، لكن "من يقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا". ما الذي يعد به المسيح إذن إنه لا يعد بشيءٍ قابلٍ للفساد، بل بالأحرى بذلك السرّ -الألوجية- في شركة جسده ودمه الأقدسين، فيستعيد الإنسان بكليته عدم الفساد، ولا يحتاج أبدًا إلى أي شيء من تلك التي تدفع الموت عن الجسد، أعني الطعام والشراب.إن جسد المسيح المقدس يعطي حياة لمن يكون الجسد فيهم، فيحفظهم كلية في عدم فساد، إذ يختلط بأجسادهم، لأننا ندرك أنه ما من جسدٍ آخر سوى جسده له الحياة بالطبيعة، هذا الذي لا يعادله جسد آخر.

* إذ نقترب إلى تلك النعمة الإلهية والسماوية، ونصعد إلى شركة المسيح المقدسة، بذلك وحده نقهر خداع الشيطان. وإذ نصبح شركاء الطبيعة الإلهية (٢ بط ١: ٤) نرتفع إلى الحياة وعدم الفساد.

القديس كيرلس الكبير

* أنتم تطلبون خبزًا نازلًا من السماء، إنه أمامكم لكنكم لا تريدون أن تأكلوا. "ولكنني قلت لكم إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون" [36][696].

القديس أغسطينوس

"ولكني قلت لكم أنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون". [36]

* رأوا الرب، الله بالطبيعة، حينما أطعم جمعًا غفيرًا لا يُحصى، كان قد جاء إليه، بخمسة أرغفة شعير وسمكتين صغيرتين، كان قد قسمها لهم. لكنهم رأوا ولم يؤمنوا بسبب العمى الذي أغشى فهمهم كضباب بسبب الغضب الإلهي... لأنهم متمسكون بعثرات لا حصر لها، ومقيدون بحبال تعدياتهم التي لا فكاك منها (أم ٥: ٢٢). لم يقبلوه حين جاء إليهم، وهو القادر على حل قيودهم وتحريرهم. لهذا السبب كان قلب هذا الشعب غليظًا.

القديس كيرلس الكبير

"كل ما يعطيني الآب فاليّ يقبل،

ومن يقبل إليّ، لاأخرجه خارجًا". [37]

يوجه القديس يوحنا الذهبي الفم أنظارنا هنا إلى دور الله ودور الإنسان، فالإنسان لن يقدر أن يؤمن بذاته، بل بجاذبية الله له، ونعمته المجانية العاملة فيه. لكن لا يتمتع الإنسان بهذا الإيمان قسرًا، بل بكامل حريته يقبل إلى السيد الذي يحفظه ويقدسه ولا يطرده خارجًا عنه.

* إنه يشير هنا إلى شعوب الأمم الموشكين أن يؤمنوا به إيمانًا كاملًا (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إني لن أُخرج من يقبل إليّ خارجًا، أي إنني لن أطرحه كإناءٍ عديم النفع... كإنسانٍ مُحتقر. ولن يبقى دون نصيب في اهتماماتي، بل سوف أجمعه في مخزني، وينزل ساكنًا في المنازل السماوية، ويرى نفسه مالكًا لكل رجاء يفوق إدراك البشر.

القديس كيرلس الكبير

* إن ما يعلنه هنا ليس إلا هذا: "الإيمان بي ليس بالأمر العادي، لا يأتي خلال براهين بشرية، بل يحتاج إلى إعلان من فوق، وإلي نفس تدبيرها حسن يجتذبها الله لكي تتقبل الإعلان[697].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لأني قد نزلت من السماء،

ليس لأعمل مشيئتي،