ما معنى قول السيد المسيح : "واما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما احد ولا الملائكة الذين فى السماء ولا الابن إلا الآب" ( مر 13 : 32 )
الجواب
عندما قال السيد المسيح : واما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما احد ولا الملائكة الذين فى السماء ولا الابن الا الآب ( مر 13 :32) .
فمثلما شرح القديس اثناسيوس انه بحسب انسانيته اخلى نفسه ووجد فى الهيئة كإنسان وأخذ صورة عبد فهو لم يقبل من حيث انسانيته ان يقتنى معرفة هذا اليوم الأخير ، متنازلاً عن هذه المعرفة بحسب التدبير الى أن صعد الى السموات ورفع فى المجد.
وقد ورد فى الفقرة (45) من رسالة القديس اثناسيوس الثالثة ضد الاريوسيين ما نصه :
( المحبون للمسيح والذين يحملون المسيح ، يعرفون ان الحكمة قال لا اعرف ، لا لانه لا يعرف ، اذ هو باعتباره الحكمة يعرف ( كل شئ) ، ولكن لكى يظهر الناحية الانسانية ، إذ أن الجهل خاص بالبشر ، وانه قد لبس الجسد الذى يجهل ، والذى بوجوده فيه قال بحسب الجسد لا أعرف .
ولهذا السبب فبعد قوله ، ولا الابن يعرف ، وتحدثه عن جهل الناس فى ايام نوح ، أضاف مباشرة قائلاً اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون فى أى ساعة يأتى ربكم " وأيضاً " فى ساعة لا تظنون يأتى ابن الانسان (مت 24:24 ، 44 ) . ولكن اذ صرت مثلكم ، من اجلكم قلت : قلت ولا الابن" لانه لو كان يجهل كإله ، كان ينبغى أن يقول : لا تعلمون وفى ساعة لا اعلمها لكن فى الواقع ليس هذا هو ما قاله . ولكن بقوله : لا تعلمون " و " فى ساعه لا تظنون" ، واوضح بذلك أن الجهل خاص بالبشر ، الذين لأجلهم أخذ جسداً مشابهاً لأجسادهم، وصار إنساناً . وقال : ولا الابن يعرف لأنه لا يعرف بالجسد رغم أنه يعرف ككلمة الله ).
وقال ايضاً فى الفقرة ( 46 ) من نفس الرساله : ( عندما سأله التلاميذ عن النهاية ، حسناً قال حينئذ : " ولا الابن " جسديا ، بحسب الجسد ، لكى يظهر أنه كإنسان لا يعرف . لأن الجهل هو من خصائص البشر ، ولكن إذ هو الحكمة ، وهو الذى سوف يأتى ، وهو الديان ، وهو العريس ، فهو يعرف متى وفى اى ساعة سيأتى ، ومتى سيقال " استيقظ ايها النائم ، وقم من الاموات ، فيضئ لك المسيح "( أف 5: 14) .
كما أنه اذ صار انساناً فهو كان يجوع ويعش ويتألم مع الناس ، هكذا مع الناس كإنسان لا يعرف ، رغم أنه كإله إذ هو كلمة الآب وحكتمه فهو يعرف ، ولا يوجد شء لا يعرفه )
. إذن عندما يقول : أنا أعرف ، يكون بحسب ذهنيته الالهية ..
وعندما يقول : لا اعرف ، فيكون بحسب ذهنيته البشرية ..
من حيث انسانيته هو لايعرف ، بدون فصل بين اللاهو ت والناسوت .
نعطى لذلك مثلاً بسيطاً : اذا اتى شخص ما على سبيل الفرض وطرق على قبر السيد المسيح يوم السبت بعد موته بالجسد على الصليب ، ونادى : " يا يسوع " ولم يفتح له أحد . فذهب لحال سبيله . ثم قابل هذا الشخص السيد المسيح بعد القيامة ، وقال له انه طرق على القبر يوم السبت فهل سمعه فإذا قال له السيد المسيح : لم اسمع " يكون صادقاً لانه بحسب الجسد لم يسمع .
فالجسد مات موتاً حقيقياً ، وبالتالى حاسة السمع الجسديه لم تكون تعمل . وبقوله ( لم اسمع ) يريد تأكيد موته بحسب الجسد لئلا يظن احد انه كان حياً يسمع الطرقات وهو بداخل القبر ،
فالعبارة إذن لتأكيد حقيقة انسانيته الكاملة . واذا قال له ( كنت سامعاً ) يكون صادقاً أيضاً , لانه من حيث لاهوته هو سامع لكل الاشياء ...
هو صادق فى كلامه فى كل من الحالتين .
العجيب فى شخصية السيد المسيح ، انه كان ميتاً وحياً فى نفس الوقت .. ميتاً بحسب إنسانيته ، وحياً بحسب ألوهيته ... هو ميت وحى فى آن واحد .. مات حقاً بحسب الجسد ، وفى نفس الوقت لم يمت حقاً بحسب اللاهوت .
وبالمثل فإنه يعرف حقاً بحسب لاهوته ، ولا يعرف حقاً بحسب إنسانيته . ولكن عندما رفع فى المجد ، دخل ناسوته فى حالة التمجد التى تليق بالابن الوحيد ...
ولذلك نقول فى القداس الباسيلى : ( وصعد الى السموات وجلس عن يمينك أيها الآب ورسم يوماً للمجازاة ) ...
وعبارة ( رسم يوماً للمجازاة ) تعنى أنه لما رفع فى المجد ، انتهت فكرة أنه يخلى نفسه من بعض نواحى المعرفة انسانياً .
وبهذا قدم لنا القدوة فى الاتضاع وعدم البحث عما هو فى دائرة سلطان الآب السماوى ، وذلك عندما اخلى نفسه آخذا صورة عبد
ان السيد المسيح شابه اخوته فى كل شئ ما خلا الخطية ، فلو كان قد عرف اليوم والساعة انسانياً اثناء وجوده على الارض ، فكيف يكون قد شابه اخوته فى كل شئ ما خلا الخطية !! معنى معرفة اليوم والساعة ، ان هناك احد الامور لم يشابهنا فها ( وهى معرفة اليوم الاخير ) ،
ولكنه ارتضى ان يختبر كلما هو للانسان بما فى ذلك الجوع والعطش وبما فى ذلك ايضاً ان ينسب الى نفسه عدم المعرفة ، وهذه كانت اكبر ضربه للشيطان ان يقول السيد المسيح : " واما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما احد ولا الملائكة الذين فى السماء ولا الابن إلا الآب " ( مر 13 : 32 ) .
لان الشيطان قال : لا يمكن ان اللوغوس الذى هو الحكمة الازلى لا يعرف اليوم ولا الساعة ، وبهذا شك فى ألوهية السيد المسيح وقدرته ان ينتصر على الموت ، فأتم مؤامرة الصلب بكل ما فيها من خيانة وقساوة وعدوان .
ولقد نسى الشيطان ان السيد المسيح كان يتكلم فى هذا الامر بحسب انسانيته اذ اخلى نفسه واخذ صورة عبد " واذ وجد فى الهيئة كأنسان وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب " ( فى 2 : 8 ) .
وخلاصة الامر ان الشيطان لم يفهم معنى اخلاء الذات للابن الكلمة المساوى لابيه فى الجوهر ، وذلك لان اخلاء الذات يتعارض تماماً مع سعى الشيطان نحو تأليه ذاته !!..