حرية الإرادة
وقوة الإرادة أو ضعفها

لقد خلق الله الإنسان بارادة حرة. ولما إنحرفت إرادته بحريته نحو الخطأ، وضع له الله ضوابط من وصاياه المقدسة. وكذلك وضع المجتمع ضوابط للارادة، مؤداها أن الانسان لا يستخدم حرية ارادته ضد حريات الآخرين أو حقوقهم. كما لا يستخدم حريته ضد القانون والنظام العام
وبقى الانسان يتمتع بحرية ارادته داخل هذه الضوابط
على أنه يستطيع فى حريته أن يعطى وصايا الله، وأن يخرج عن الضوابط التى وضعها المجتمع. وبهذا يصبح مذنباً أو شريراً، يتعرض لعقوبة الله وعقوبة المجتمع...
***
الخير أمام الانسان: يريده أو لا يريده... هنا حرية الإرادة.
أما أن يفعل الخير أو لا يفعله. فهنا قوة الإرادة أو ضعفها.
فما الذى يؤثر على الإرادة، ويجعلها تضعف عن فعل الخير...
أول ما يضعف ارادة الانسان، الشهوة أياً كان نوعها، سواء كانت شهوة الجسد، أو شهوة السلطة، أو شهوة المال، أو شهوة الأنتقام... وما إلى ذلك من الشهوات التى تسيطر على القلب، ثم العقل، ثم الإرادة.. وأمامها تختفى كل القيم، ولا تبقى سوى الشهوة سيدة الموقف...
الشهوة تُخضع العقل لها، وتستخدمه لتنفيذ أغراضها، فيبرر لها الهدف، ويبحث لها عن وسائل للتنفيذ. ويجعل العقل يشتعل بالرغبة
وأمام طغيان الشهوة، وخضوع العقل والقلب لها، تصبح الإرادة أيضاً مجرد إداة منفذة لرغبات الشهوة
وهنا تصبح الإرادة ضعيفة لا تستطيع أن تقاوم الشهوة، فلا يقف إلى معونتها عقل ولا ضمير... لذلك على الانسان الصالح أن يقاوم أية شهوة خاطئة، من بادئ الأمر، قبل أن تقوى وتدخل إلى القلب وتسيطر عليه، وقبل أن يخضع العقل لها
***
وإن كانت الإرادة تضعف أمام الشهوة، فهى تضعف بالأكثر أمام العادات الخاطئة. وتنهار الإرادة الخيرة تماماً وإن تحولت العادة إلى طبع
فالإنسان- بصفة عامة- ضعيف الإرادة امام طبعه وأمام عاداته. ولهذا لا تسمح لأخطائك أن تتطور إلى عادات. والمعروف أن العادة تنتج عن عمل إرادى يتكرر. فالخطأ الذى تعمله بارادتك اليوم، قد تجد نفسك منساقاً إلى عمله بغير ارادتك، إذا طالت المدة عليك فى عمله
لذلك لا تسمح لنفسك أن تخضع لعادة معينة يصبح لها سيطرة عليك. قاوم ذلك من بادئ الأمر قبل أن يتأصل...
***
يُضعف الإرادة أيضاً الإغراء الشديد، والقرب منه
لذلك إبعد عما يغريك، وبالتوالى يضعف ارادتك، فلا تستطيع أن تقاوم. إن الهروب من مصادر الخطيئة، والبعد عن مؤثراتها، أمر يُعتبر فضيلة فى حد ذاته، لأنه يدل على رفض القلب لتلك الخطيئة...
ومن هذه المصادر الضارة التى ينبغى أن يبعد عنها الانسان الصالح: الأماكن والأشخاص والمغريات. فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة. وليس حقاً أن يدعى إنسان بأنه لا يتأثر! على الاقل كلما تعرض للأسباب، سيتأثر شيئاً فشيئاً، ولو قليلا قليلاً مما يضعف ارادته...
***
تضعف الإرادة أيضاً أمام الضغوط الخارجية
وهكذا قد يتصرف الانسان بغير إرادته نتيجة لضغوط تفرض عليه من والديه، أو من رئيسه فى العمل، أو من الحاح ودموع زوجة، أو من سيطرة زوج... وفى كل هذا قد يضعف ولا يملك ارادته. وفى خضوعه أو استسلامه لهذه الضغوط الخارجية، قد يتصرف بعكس ما يريد!!
وإن قاوم ورفض، ما أسهل أن يتهموه بالعناد وصلابة الرأى، وعدم التفاهم أو عدم الطاعة...! ويبقى الأمر معلقاً- حسب نوعية شخصيته- هل تنتصر إرادته، أم تنتصر الضغوط الواقعة عليه...
***
من الجائز أن يكون الضغط الخارجى على الإرادة بسبب التيار العام
فلا يستطيع الشخص أن يسبح عكس التيار، وإنما يجعل إرادته تتمشى مع الوضع السائد بقدر إمكانه، فى حدود ما يرضاه ضميره...
أما المصلحون الإجتماعيون، فقد وقفوا بإرادة قوية وبعقلية مؤثرة ضد أوضاع مجتمعهم، واحتملوا النقد والمقاومة، ونجحوا أخيراً، وغيّروا أوضاعاً كانت قائمة وراسخة... ولكن ليس الجميع بمثل هذه القوة...
***
مما يضعف الإرادة أحياناً: بعض العوائق القائمة ضدها...
على أن العوائق ليست كلها موانع. وصاحب الإرادة القوية يمكنه أن ينتصر على العوائق، فلا تمنعه من تنفيذ ما يريد...
هكذا فعل العصاميون الذين شقوا طريقهم فى الحياة بدون إمكانيات، وكأنهم يحفرون فى صخر! وهكذا أيضاً سلك بعض الذين قاسوا من تعويقات جسدية وأنتصروا عليها... إن طه حسين مثل رائع فى هذا المجال. لأنه وقد فقد بصره، استطاع بقوة إرادته ومثابرته وجهاده، أن يدرس ويتفوق، ويصير زعيم الأدب العربى فى عصره، ويصل إلى الإستاذية وإلى رئاسة جامعة الإسكندرية، وإلى منصب وزير التربية والتعليم...
بتهوفن- فى الموسيقى- كان مثلاً آخر. وغير هذين كثيرون
***
قد تضعف الإرادة أيضاً بسبب ضعف الشخصية:
كأن يكون الشخص غير قادر على البتّ فى الأمور، أو أنه يريد ولا يستطيع، أو يكون من النوع المتردد، المتحير بين أن يفعل أو لا يفعل. أو يكون خائفاً من جهة النتائج وردود الفعل. أو يكون متحيراً فى أسلوب التنفيذ، بأية الطرق يكون! أو يكون الأمر غير واضح أمامه...
كل ذلك يجعل إرادته ضعيفة، مهتزة، غير واثقة من العمل ذاته، ولا من نتائجه...! وعلى مثل هذا الشخص أن يتروى، ويدرس الموضوع جيداً. ولا يقدم عليه إلا بعد التأكد والثقة التامة
***
يسأل البعض عن الأحلام التى تشمل بعض الأخطاء، وما موقف الإرادة فيها وهل تعتبر أخطاؤها أعمالاً غير إرادية
لا يمكن أن نقول إنها غير إرادية تماماً. لأن غالبيتها تكون عبارة عن صور أو أخبار أو رغبات، ترسبت فى العقل الباطن نتيجة لأعمال إرادية سابقة. فالإرادة قائمة- ليست فى موضوع الحلم بالذات- إنما فيما سبقه من أعمال إرادية كانت هى السبب فيه
أما لو كان الخطأ الذى فى الحلم غير مقبول تماماً، وضد الإرادة والرغبة بطريقة، فلابد أن الشخص يستيقظ ولا يكمل حلمه، لأنه لا يحتمله...
لذلك يمكن أن نقول عن هذه الاحلام إنه شبه إرادية. فهى ليست إرادية، وليست غير إرادية بحكم مطلق...
***
إن ضعفت إرادة الانسان، فماذا يفعل لكى يقوى إرادته
وأقصد كيف يقوى إرادته فى عمل الخير. لأن هناك من يرتكبون الخطيئة بإرادة قوية، ويفعلون الشر بتصميم، وينتصرون فى فعله على كل العوائق.
هناك تداريب كثيرة لتقوية الإرادة، فى مقدمتها تدريب ضبط النفس... ولو أدى الأمر إلى التغصب. لذلك إعمل الخير، ولو بأن تغصب نفسك على ذلك، فسيأتى الوقت الذى تعمل فيه الخير بإرادتك، وبدون تغصب...
وما دامت العادة الخاطئة هى نتيجة عمل إرادى متكرر، اذن بإرادتك إعمل ما هو عكسها أو ضدها، بتكرار حتى يثبت ذلك فى طبعك...
***
ويقوى إرادتك أيضاً: التدين ومخافة الله:
ضع فى ذهنك باستمرار، أن الله يرى كل ما تفعله، ويسمع كل ما تقوله، ويحاسبك على كل ذلك... حينئذ تدخل مخافة الله فى قلبك، وتقوى إرادتك فى عمل الخير وفى البعد عن الشر، وتحميك من التردد، وتمنحك نعمة وقوة...
قداسة البابا شنودة الثالث