ج- المادة ليست أزلية:
لو كانت المادة أزلية لا بداية لها، ولا يوجد خالق لها، فمن ذا الذي وضع قوانين الطبيعة التي تحكم الكون كله في انسجام يفوق الإدراك..! وكيف تلاحمت عناصر المادة رغم اختلاف الطبائع فالتراب ضد الهواء والماء ضد النار! ومن الذي حفظ للخلائق توازنها، فبالرغم من أن نسبة توالد الذئاب إلى الحملان 10: 1 فإن الحملان وبقية الحيوانات المستأنسة مازالت موجودة، والوحوش الضارية لم تختف من الوجود.

وتعبير أن المادة أزلية هو تعبير غير منطقي لأن المادة قابلة للتغيير، وليس من المعقول أن المتغير يكون أزليًا، والمادة تحمل في طياتها عنصر الضعف، وليس من المعقول أن الضعيف يكون أزليًا وقال أحد علماء اللاهوت "هذا العالم إما أن يكون أزليًا أو محدثًا، ولا يمكن أن يكون أزليًا لأنه متغير... والتغير صورة من صور الاضمحلال، والاضمحلال يدل على الحدوث، وحيث إن هذا العالم مُحدَث، فلا بد له يكون له مُحدِث أحدثه"(15). ومن المعروف أن الشمس ككتلة ملتهبة تستنزف مادتها إذ تتحول المادة إلى طاقة، فلو كانت هذه الشمس أزلية لاستنزفت بالكامل ولم يعد هناك شمس ولا أرض ولا حياة ولا كواكب، ومن المعروف أيضًا أن الهيدروجين يتحول بمرور الزمن إلى هيليوم، فلو كان الهيدروجين منذ الأزل لتحول كله إلى هيليوم، وهلم جرا... ويقول العالم "إدوارد لوثر كيل " Edward Luther Kiel أستاذ علم الأحياء "أننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًا، وإلّا لاستهلكت طاقته منذ زمن وتوقف كل نشاط في الوجود، وهكذا توصلت العلوم دون قصد إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولا بد من مبتدئ أو من محرك أول أو من خالق وهو الله"(16).

كما أن تعبير أن المادة أوجدت نفسها تعبيرًا غير منطقي، إذ كيف تُوجِد المادة نفسها وهي أصلًا غير موجودة!

وعندما قال ماركس "أن المادة ديالكتيكية لها قوة قادرة على الفعل، رد عليه "بردياييف " الملحد بعد عودته للإيمان فقال إن عبارة ماركس هذه بها تناقض لفظي، لأنه كيف يمكن للمادة الصلدة الجامدة أن يكون لها قوة قادرة على الفعل! ويقول "د.جورج ايريل دافيز " George Earl عالم الطبيعة "فالمنطق الذي نستطيع أن نأخذ به، والذي لا يمكن أن يتطرق إليه الشك هو أنه ليس هناك شيء مادي يستطيع أن يخلق نفسه، وإذا سلمنا بقدرة الكون على خلق نفسه فإننا بذلك نصف الكون بالألوهية، ومعنى ذلك إننا نعترف بوجود إله"(17).

وردًا على القائلين بأن الصدفة أوجدت الحياة التي تطورت وصارت كما نراها، نقول لهم إن كانت الصدفة والارتقاء نجحا في إيجاد رجل بكل تركيباته العجيبة وأجهزته التي تفوق الخيال، فهل يمكن أن الصدفة والارتقاء ينجحا في إيجاد كائن مماثل للرجل ومخالف له في الجهاز التناسلي وهو المرأة، حتى تستمر الحياة على وجه الأرض!.

وعندما قالوا إن الكتكوت يخرج من البيضة التي ليس بها حياة، كان هذا مغالطة، لأن ليس كل بيضة يخرج منها كتكوت. إنما يخرج الكتكوت من البيضة المُلقحة فقط بعد أن دخلت إليها الحياة عن طريق التلقيح. كما إن البكتريا التي يحملها الهواء إلى اللحوم المتعفنة هي التي تمثل بذرة الحياة، ومنها تخرج الديدان لأنها وجدت البيئة المناسبة، وأيضًا تعبير أن المادة وُجِدت بالصدفة تعبير غير منطقي وغير علمي، فالصدفة لا تُوجِد كائنات حية، ويقول "د. توماس دافبر باركس " أستاذ الكيمياء "إنني أقر النظام والتصميم في كل ما يحيط بي من العالم غير العضوي ولا أستطيع أن أُسلم بأن يكون كل ذلك قد تم بمحض الصدفة العمياء التي جعلت ذرات هذا الكون تتآلف بهذه الصورة العجيبة. إن هذا التصميم يحتاج إلى مبدع، ونحن نطلق على هذا المبدع الله"(18). كما يقول "د. جون وليامز كلونس " عالم الوراثة "إن هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الإتقان والتعقيد درجة تجعل من المحال أن يكون قد نشأ بمحض الصدفة... ومن التعقيدات الطريفة في هذا الكون ما نشاهده من العلاقات التوافقية الاضطرارية بين الأشياء أحيانًا، ومن أمثلتها العلاقة بين فراشة "اليوكاو" ونبات "اليوكا" وكذلك العلاقة بين نبات التين ومجموعة من الزنابير الصغيرة، وهناك كثير من الأزهار تسجن الحشرات داخلها وإن النبات بعد أن يتم التلقيح لا يهتم بخروج الحشرة من الزهرة المؤنثة لأنها تكون قد أدت رسالتها، أما عند دخول الحشرة إلى زهرة مذكرة فإنه يُسمح لها بالخروج لأنها لا تكون قد أدت رسالتها. أفلا تدل كل هذه الشواهد على وجود الله إن من الصعب على عقولنا أن نتصوَّر أن كل هذا التوافق العجيب قد تم بمحض الصدفة. أنه لا بد أن يكون نتيجة توجيه لحكم احتياج إلى قدرة وتدبير"(19).

وإن قال فيلسوفهم "هلباخ " أن المادة في حركة دائبة مستمرة، نقول له إن الحركة في الجماد تختلف عنها في الكائنات الحية، فالحركة في الجماد لا يمكن للإنسان أن يوقفها، بينما يمكن للإنسان التحكم في حركة الكائنات الحية، وأيضًا الكائنات الحية عندما تتعرض للموت تكف عن الحركة فالمادة الصلدة لا تموت، وأخيرًا نقول للذين يؤلّهون المادة: هل عندما يعبث الإنسان بالمادة يعبث بإلهكم!!

ومن الأمور الطريفة إن أحد الملحدين ألقى محاضرة على عدد كبير من العمال وأخذ يدلل فيها على إن الإنسان ما هو إلّا مادة، فاستأذن أحد العمال لإبداء رأيه وما أن سُمح له حتى رفع الكرسي وألقى به على الأرض، ثم توجه إلى المحاضر وصفعه على وجهه، فهاج المحاضر وماج وطالب رفاقه الشيوعيين اعتقال هذا العامل وهو يصرخ في وجهه: كيف تجرؤ على صفعي وما هو السبب فأجابه العامل المؤمن "لقد أثبت لنا على أنك كاذب يا أستاذ. فقد قلت أن كل شيء في الوجود هو مادة لا أكثر ولا أقل، لقد رفعت الكرسي ورميت به أرضًا، لكنه لم

يغضب حيث أنه مادة بالفعل. ولكنني لما صفعتك على خدك لم تفعل أنت ما فعله الكرسي، فقد اختلف رد فعلك عنه، فالمادة لا تغضب ولم تحنق كما فعلت أنت. لذلك أيها الأستاذ الرفيق، إنك على خطأ جسيم، فالإنسان هو أكثر من المادة. نحن شخصيات روحية"(20).

أما نظرية الملحد "تشارلز روبرت دارون " الخاصة بالنشوء والارتقاء، فقد كان لهذه النظرية أثرها البالغ على المفاهيم الفلسفية والسياسية والعلاقات السائدة بين البشر، وترتب على نظرية "الانتخاب الطبيعي " ظهور فلسفة الاعتداء والعنف والاغتصاب التي تحمس لها الألماني "نيتشه" وأدخلت هذه النظرية البشرية في حروب طويلة، فكلِ يريد أن يثبت أنه الأقوى والأصلح، وتمخضت هذه النظرية عن شعار سيادة الجنس الآري على جميع الأجناس الأخرى مما تسبب في حرب السبعين عامًا، بل في الحرب العالمية الأولى والثاني، وتم نقد نظرية دارون، فقال العلماء:

1-أغلبية التغييرات التي طرأت على الكائنات الحية هي تغييرات جسيمة ضئيلة وضعيفة، ولا تؤدي بالضرورة إلى استمرار نوع من الحياة وانقراض نوع آخر.

2-التنازع على البقاء، أو تغذي حيوان كالأسد على حيوان آخر كالغزال لم يؤدي لانقراض النوع الأخير.

3-هذه النظرية لا تفسر كيفية اختفاء الزواحف الضخمة مثل الديناصورات في العصر الترياسي حقب الحياة الوسطى.

4-تعجز النظرية عن تفسير الظهور الفجائي للصفات(32).

5-أثبت علماء الجيولوجيا أن الكائنات منذ وجودها على الأرض لم تشوش ولم تختلط، فكل كائن حافظ على جنسه ونوعه، وتحقق القول الإلهي في النباتات "فأخرجت الأرض عُشبًا وبقلًا يبذر بذرًا كجنسه وشجرًا يعمل ثمرًا بذره فيه كجنسه" (تك 1: 12) ، وبالنسبة للطيور "وكل طائر ذي جناح كجنسه" (تك 1: 21) ، والحيوانات "فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها والبهائم كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها" (تك 1: 25). أما الإنسان فقد جُبل على صورة الله ومثاله "وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض" (تك 1: 28) وإن كان الإنسان قد نجح في تزاوج الحصان مع الحمار لتقاربهما ونتج عنهما البغل، إلّا أن البغل ليس له إمكانية التناسل.

6-الحيوانات الدنيئة ما زالت هكذا منذ خلقتها لم يحدث لها أي ارتقاء.

7-لو كانت النباتات قد ارتقت في زمن ما إلى الحيوانات، والحيوانات إلى الإنسان، فليس من المعقول أن يكون هذا الارتقاء قد تم فجأة. بل لا بد أنه مرَّ بمراحل متوسطة، ولم تعثر الحفريات قط على صورة هذه المراحل المتوسطة، فلا يوجد مثلًا كائنًا به جزء من النبات وبقيته من الحيوان، أو كائنًا نصفه حيوان ونصفه إنسان، فمثل هذه الصور لا وجود لها على الإطلاق إلّا في الخيال المريض.

8-قال "الدارونيون" إن الخلية الأولى استغرقت عدة ملايين من السنين حتى ظهرت منها هذه الكائنات بأنواعها المختلفة، والحقيقة إن علماء الجيولوجيا قالوا أنه منذ زمن لا يزيد عن ربع مليون سنة كانت الأرض كتلة غازية ملتهبة، تستحيل الحياة عليها... فأين إذًا نشأت الخلية الأولى هل في كوكب آخر..! إن النشوء من العدم شيء محال، ونشوء الحياة الحيوانية من الحياة النباتية، أو نشوء الحياة البشرية من الحياة الحيوانية ما هو إلّا ضرب من الخيال.

9-وردًا على الذين قالوا إن الإنسان نشأ وتطور عن القردة، وإن الإنسان أصله قردًا، وأخذوا يدللون على قولهم

هذا بأدلة واهية. تقف أمامهم عقبات كثيرة مثل:

أ- هناك تفاوت كبير بين دماغ القردة ودماغ الإنسان، فدماغ الغوريلا وهي أعظم القردة (30,5 قيراط- 500 سم3) يبلغ ثلث دماغ سكان أستراليا الأصليين وهم أقل جميع البشر (3/1 99 قيراط- 1500 سم3).

ب- للإنسان إمكانية الابتكار والارتقاء، وتشهد بهذا الثورة العلمية الرهيبة التي نعيشها الآن وهي أشبه بمعجزة عظيمة جدًا يصعب تصديقها لمن عاش على أرضنا هذه منذ مائة عام فقط، بينما الحيوان عاجز تمامًا عن هذا الارتقاء والابتكار.

ج- يقد الإنسان أن يربط الظواهر بالأسباب لأنه يعقل الأمور ويتفهمها فهو قادر على التعليل، والتمييز، والنطق... إلخ بينما يعجز الحيوان في هذا.

د- لدى الإنسان الميل الطبيعي والشعور الخفي للبحث عن الخالق وعبادته، لأن الله كتب فيه صورته. أما الحيوان فلا يشعر بمثل هذا الاحتياج.

ه- سفه العلماء هذا الرأي واعتبروه ضربًا من الجنون، فقال العالم الألماني "فون باير" إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من القردة هو بلا شك ضرب من الجنون، حيث ينثل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد، كما إنه لا يوجد دليل على هذا الرأي المضحك من جهة الاستكشافات الحفرية. وقال أستاذ علم الأنثروبولوجيا "فيركو " يجب عليَّ أن أُعلن بأن جميع الترقيات الجسيمة التي حدثت في علم الأنثربولوجيا السابقة على التاريخ تجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقردة تبعد عن الاحتمال بعدًا كاملًا. فإذا درسنا الإنسان الحفري في العهد الرابع فهو الذي يجب أن يكون الإنسان الأقرب إلى أسلافه، نجده إنسانًا مشابه لنا كل الشبه، فإن جماجم جميع الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة أنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا للغاية، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء إذا ما كان لهم رأس مثله. والعلامة "فيفرت" قال "إن مذهب دارون لا يمكن تأييده. إنه رأي من آراء الصبيان"(33).


د- كيف تفسر الحياة والموت والعقل والضمير والخيال والغرائز والعواطف وما بعد الموت
الإلحاديون الذين يدَّعون إن الإنسان ما هو إلّا حفنة من المواد يعجزون عن الإجابة على السؤال السابق، فغير الحي لا يخلق حيًّا... كيف تهب المادة الصلدة الجامدة روحًا وحياة للكائنات الحيَّة من أين أتت الحياة للمادة وإن قالوا إنها أتت من الخلية الأولى التي وجدت بالصدفة منذ ملايين السنين، فإننا نقول لهم كيف عاشت الخلية الأولى بينما كانت الأرض في صورتها الأولى منذ ملايين السنين عبارة عن ذوبان ناري تتراوح حرارتها بين 1500- 3000 درجة. ثم إن العلم عجز حتى الآن وسيعجز للأبد عن خلق هذه الخلية الأولى... فمن أين أتت ولو أن الخلية الأولى هي مصدر الحياة، وبالتطور وصلت إلى ما وصلت عليه الآن، فكيف تطورت في شكل الإنسان الذي يشمل على 80 تريليون خلية، وبالمخ 10 بليون خلية كيف تجمعت كل هذه الخلايا لتكون الإنسان بوظائفه الحيوية هل بمجرد الصدفة العمياء، وهل ظهر كائن قبل الإنسان أقل تطورًا فكان مثلًا نصفه إنسان والنصف الآخر حيوان ولماذا لم يظهر كائن آخر أكثر تطورًا من الإنسان الذي يعيش على الأرض منذ خلقته! وهل يمكن أن يكون وضع الجينات المتناهية الصغر في الإنسان محض الصدفة..! إن دراسة علم الوراثة يكشف لنا عن عظمة الخالق. قال أحد الملحدين بعد أن اهتدى للإيمان "إنني لم أكن أعرف الله، وما كنت أؤمن بوجوده بل كنت أسخر من الإيمان وأكرز بالكفر، وكنت ألقي محاضرات ضد وجود الله، ولكنني التقيت بالله في الحياة... ومن الحياة تعلمت أن هناك الله"(21). وغير العاقل لا يخلق إنسانًا عاقلًا له ضمير ومشيئة... كيف تهب المادة غير العاقلة عقلًا للكائنات الحيَّة! ومن ذا الذي وضع في الإنسان قوة التفكير والتدبير والتخيل. قال بردياييف "إن الماركسيين لم يحاولوا أبدًا أن يفسروا كيف يمكن للوجود المادي أن يتحول إلى تفكير ووجدان!"(22) ، وأيضًا كيف تُخرج لنا المادة الصماء البكماء إنسانًا ناطقًا!

ومن وضع في الإنسان والحيوان الغرائز الطبيعية.. فلولا غريزة الجوع، وغريزة الخوف، وغريزة حب البقاء لهلك الإنسان والحيوان... من علم الطيور المهاجرة والثعابين النيلية مسلكها في الهجرة والعودة عبر آلاف الأميال!.

وأيضًا فشل الإلحاديون في تفسير ظاهرة الموت، بل وقفوا أمامها مرتعبين، فماركس رغم غزارة إنتاجه الأدبي إلّا أنه لم يتكلم عن الموت إلّا بسبب موت ابنه فقال "يبدو أن الموت انتصر انتصارًا قاسيًا"(23). كما قال "إن موت ولدي آلمني كثيرًا حتى إنني أشعر بمرارة فقده كما في اليوم الأول"(34)(24). وارتعب يا روسلاتسكي أمام الموت قائلًا "احرقوا كل كتبي. انظروا أنه هنا ينتظرني. احرقوا كل مؤلفاتي"(25).

وبينما فشل الإلحاديون في الإجابة عما بعد الموت فإن مسيحيِّ رومانيا الشيوعية كانوا يثبتون لهم الحياة بعد الموت بطريقة بسيطة، فيقولون "لنفرض أنك استطعت أن تخاطب جنينًا في رحم أمه، وأن تقول له أن حياة الجنين هي لمدة قصيرة فقط، تليها حياة حقيقية طويلة الآن، فماذا يكون جواب الجنين أنه يجيب بمثل ما تجيبوننا تمامًا أنتم الملحدين عندما نتحدث إليكم عن السماء وجهنم، فيقول الجنين أن الحياة في رحم أمه هي الحياة الوحيدة، وكل شيء آخر فهو حماقة دينية، ولكن لو استطاع الجنين أن يفكر لقال لنفسه: ينمو لي هنا ذراعان لست بحاجة إليهما، كما إني لا أقدر أن أمدهما، فلماذا تنمو إذًا ربما كان ذلك لحقبة قصيرة من الزمن في مستقبل حياتي حين يجب أن أشتغل بهما. كما إن رجلي تنموان أيضًا. لكن عليَّ أن أبقيهما منحنيتين نحو صدري، فلماذا تنموان ربما سنلحق الحياة في عالم واسع وعليَّ أن أنسى آنذاك. كذلك العينان تتكونان أيضًا، ولكن حيث أنني محاط بظلمة شاملة فليس لي حاجة إليهما. فلماذا تنمو لي عينان ربما سيخلف فيما بعد عالم نور وألوان... وهكذا، فلو استطاع الجنين أن يتأمل نموه لعرف عن حياة خارج رحم أمه دون أن يراها. وهذا هو حالنا نحن أيضًا، فما دمنا صغار السن فلنا حيوية، إنما بلا عقل، لاستخدامها بصورة صحيحة، ولكن عندما ننمو في المعرفة والحكمة على مر السنين، ينتظرنا النعش ليوصلنا إلى القبر. فلماذا كان ضروريًا لنا أن ننمو في المعرفة والحكمة اللتين لا نستطيع استخدامها فيما بعد! ولماذا تنمو للجنين ذراعان ورجلان وعينان!

الجواب هو: تحضيرًا لما سيأتي! وهكذا هو حالنا نحن أيضًا هنا على الأرض. فنحن ننمو هنا في الخبرة، والمعرفة والحكمة استعدادا لما سيأتي في المستقبل، فنحن نتهيأ لخدمة أسمى بعد الوفاة"(26).

St-Takla.org Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ه-عدم إدراك الله بالحواس لا يعني عدم وجوده:
عقل الإنسان المحدود يعجز عن إدراك الله الغير محدود، وإن كان عقل الإنسان المحدود ما زال عاجزًا عن إدراك أسرار وعجائب الطبيعة، فهل نطلب منه أن يدرك ويحوي ويحد الله ولذلك قال الفيلسوف توما الأكويني "إن الله ليس كما نتصورّه أو نفهمه بمداركنا العاجزة، فإذا عرفنا أن الله بمفهومنا يكُف عن أن يكون إلهًا. فالعقل البشري أضيق من أن يحد اللامحدود، ولكننا نستطيع أن نعرفه فقط، لا أن نصل إلى إدراكه"(27). وقال الفيلسوف الهندي مانو "الإله هو الكائن الذي لا يمكن أن تحويه الحواس المادية، وليس بمقدور العقل أن يدركه على ما هو عليه. وذلك لاستحالة الكائن الجزئي أن يحوي الكائن الكلي"(28).

ويقول نيافة الأنبا موسى الأسقف العام "العقل والإيمان، إن العقل ليس ضد الإيمان، ولا الإيمان ضد العقل!! الإيمان لا يصادر العقل أو يلغيه، ولكنه يؤكد على محدودية العقل، ثم يكمل هو -أي الإيمان- المشوار معنا. تمامًا مثل التلسكوب، والعين المجردة. فالعين المجردة محدودة في إبصارها، ترى حتى مسافة معينة، ولا تستطيع أن تدرك تفاصيل الأمور البعيدة، مثل القمر مثلًا، العين تراه قرصًا جميلًا طالما تغزَّل فيه الشعراء، أما التلسكوب فيستطيع أن يُقرب الأمور البعيدة، ويجعلنا نرى الكثير من التفاصيل والتضاريس في هذا القمر، الأمر الذي تعجز عنه العين المجردة المحدودة. العقل مثل العين المجردة... محدود، والإيمان مثل التلسكوب... يُكمل لنا المشوار، ويقرب لنا الحقائق البعيدة وغير المحدودة، مثل الله والأبدية، لهذا يقول معلمنا بولس الرسول "بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله" (عب 11: 3) أي إن الإيمان يشرح لنا ما لا يستطيع العقل إدراكه، فالعقل محدود، والله غير محدود، وهيهات للمحدود أن يحتوي غير المحدود. هكذا يكون المنطق!..

إذًا فنحن نعرف الله بالروح بعد أن يتأمل العقل في أمور كثيرة، ويجد أنه محدود، وإنها أبعد منه وفوقه، فيسلم القيادة للروح، التي تسلم بدورها القيادة لروح الله، وهنا يدرك العقل محدوديته، ويسجد أمام اللامحدود واللانهائي... أي أمام الله!

اللانهاية... حقيقة منطقية. لا شك إن العقل محدود، بينما الأرقام غير محدودة، وأقصد رقم "اللانهاية " فإذا ما حلقنا بالفكر في أفاق المستقبل لنحصي سنوات ما بعد سنة 2003 سوف نقول 2004 ثم 2005 ثم 2006 لنصل إلى "مستقبل لا نهائي غير محدود " هو "الأبدية " إذ يستحيل أن نجد حدودًا للأرقام، أو نهاية لها. فإذا ما رجعنا بفكرنا إلى الأعوام الماضية فسوف نقول 2002 ثم 2001 ثم 2000... وسوف نصل أيضًا إلى ماضي سحيق لا نهائي... هو "الأزلية " إذًا هناك كائن أزلي (لا بداية له) أبدي (لا نهاية له) وهذا الكائن اللانهائي هو الله، مهندس الكون الأعظم، واجب الوجود، الحياة المانحة للحياة، والخالق الذي خلق الكل... بالله الأصل، علة كل المعلولات، وأساس كل الموجودات... الوجود الأول، واجب الوجود، وخالق الجميع"(29).

ورغم أن العقل عاجز عن إدراك الله لكن المسيحية لا تحتقر هذا العقل ولم تلغه كما فعلت الشيوعية، فقد سأل أحد مؤمني رومانيا أسيرًا روسيًا مهندسًا: هل تؤمن بالله فأجابه "ليس لدي أمر عسكري بهذا الشأن لأؤمن، فلو كان لي أمر لأمنت"(30).

وكم من الأمور التي لا يراها الإنسان بالحواس الجسدية، ولكنه يشعر بتأثيرها ويؤمن بوجودها وأكبر مثل على هذا القوة المغناطيسية والكهربائية والموجات الصوتية... إلخ، فبالرغم إننا لا نرى الكهرباء لكننا نراها في المصباح المضيء، ونحس بها في حرارة المدفأة، ونشعر بها في حركة الموتور، وكم من كائنات دقيقة لا نراها بالعين المجردة ولكننا نراها تحت المجهر، وكم من أصوات خافتة لا نسمعها بالأذن المجردة ولكن نستطيع أن نستمع إليها من خلال الأجهزة المتخصصة، فعين النسر ترى ما لا نراه نحن إذ ترى الفريسة على بعد ثلاثة أميال، وأذن الغزال تلتقط حركة الزلزال قبل حدوثه بعشرين دقيقة. بل إن هناك فرقًا بين عالم الحقيقة وعالم الظواهر، فالسراب هو من عالم الظواهر وليس بحقيقة، والملعقة في كوب الماء نراها وكأنها مكسورة وهي ليست كذلك، ونرى للسماء لونًا وهي ليست كذلك... إلخ.

فعدم رؤيتنا لله لا يعني عدم وجوده، ومن الطرائف التي تُذكر أن أحد الفلاسفة الملحدين في إحدى محاضراته لمجموعة من البسطاء قال إننا نرى أمورًا كثيرة، ولكننا لا نرى الله... لماذا لأن كل شيء موجود نراه، أما الله فلأنه غير موجود فلا نراه. فقال له أحد البسطاء: هل ذهبت إلى اليابان

أجابه الملحد: لا.

المؤمن البسيط: إذًا أنت لم ترَ اليابان، ولكنك تؤمن بوجودها ووجود اليابانيين لأنك ترى صنائعهم.

الملحد: نعم.

المؤمن البسيط: هكذا إن كنا لا نرى الله بالعين الجسدية، لكننا ندرك وجوده من خلال مصنوعاته.

وفي إحدى المرات أرادت مُدرسة أن تلقن البنات الصغار درسًا لا ينسونه عن إنكار وجود الله، فسألت إحدى البنات: ماذا ترين هناك

أجابت الصغيرة: شجرة.

المعلمة: كلنا نرى شجرة... إذًا الشجرة موجودة.

وكرَّرت المعلمة السؤال عدة مرات عن أمور أخرى مثل الماء، والعصفورة والمنزل... إلخ ثم سألت الفتاة الصغيرة: هل ترين الله

فقالت الفتاة: لا أراه.

المعلمة: نعم إننا لا نرى الله، لأن الله غير موجود، ولا يوجد شيء اسمه الله.

فتصدت لها فتاة أخرى صغيرة السن عظيمة الإيمان، واستأذنت أن توجه هي الأسئلة لصديقتها الصغيرة، فسألتها عن الشجرة والعصفورة والماء... إلخ. ثم سألتها: هل ترين عقل المدرسة فأجابتها: لا أرى عقل المدرسة، فقالت: إننا لا نرى عقل المدرسة، فهل معنى هذا إن المدرسة بلا عقل! وضحكت الفتيات، وعقبت هذه الفتاة المؤمنة: نحن لا نرى عقل المدرسة ولكننا نصدق أن لها عقلًا، وهكذا مع إننا لا نرى الله بأعيننا المادية، فإننا نؤمن بوجوده.

و- الشعور الداخلى بوجود الله:
عندما خلق الله الإنسان على صورته ومثاله وضع بداخله حقيقة وجوده، ولذلك تجد الإنسان يسعى دائمًا نحو الله، وما الديانات القديمة إلا هي محاولات بحث الإنسان عن الله، ولو تجولت في ربوع التاريخ فقد تجد أمورًا أساسية عاش الإنسان بدونها مثل المسكن المستقر، وعملات التعامل، والمدارس والمستشفيات والمحاكم. إلخ. ولكنه لم يستغن قط عن دور العبادة ولو في أبسط صورها... حقًا قال الكتاب المقدَّس " جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية" (جا 3: 11) وقال القديس أوغسطينوس " إن الله نصب في داخل الإنسان ديونًا جعل العقل قاضيًا، والضمير مدعيًا، والفكر شاهدًا، وكتب بإصبعه آيات وجوده، ووحدانيته، وأزليته، وعنايته بالعالم(35) وقال الفيلسوف ديكارت " تتبع فكرة اله نبعًا طبيعيًا في النفس كأنها علامة الصانع على صنعه(36) وقال الفيلسوف الألماني " كانت " عن هذا الشعور الباطني إن هناك " شيئان يملأن نفسي روعة وإعجابًا لا يفتآن يتجددان وهما السماء ذات النجوم فوق رؤوسنا، والشريعة الأدبية في داخلنا(37) فالإنسان جمع بداخله ما هو زمني بما هو أبدى، وما هو أبدى في الإنسان يسعى نحو الله الأبدي، والإحساس بوجود الله يعطى الإنسان ضبطًا لنفسه، فلا يملك مثل الأبقوريين الذين قالوا " لنأكل ونشرب فإننا غذًا نموت " ويقول ديستوفسكى " إن لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباح"(38).

صلى شاب ملحد قائلًا " أللهم، أنا متأكد أنك غير موجود ولكن إن شاءت الأقدار أنك موجود، مع إننى أتحداها، فليس من واجبى عندئذ أن أعتقد بك، إنه من واجبك أنت أن تعلن ذاتك لي"(39) ورغم إلحاد " لينين " رئيس وزراء الإتحاد السوفيتي، فإنه عند تفاقم المشاكل أمامه أخذ يصلى لله، وعندما إلتقى ريشار وورمبراند مع مقدم روسي وضابطة روسية ملحدان في أحد الحوانيت، ولأن صاحب الحانوت لا يعرف الروسية فقد تفضل ريشار بالقيام بدور المترجم، ثم دعاهما للغذاء في بيته، وعندما جلسوا إلى المائدة قال لهما " أنتما في بيت مسيحي، وقد اعتدنا أن نصلى على المائدة وبعد الصلاة انهمكا في الحديث عن الله والكتاب المقدَّس حتى آمنا قبل أن يتناولا طعامهما(40) وكان المسيحي إبان الحكم الشيوعي يثبت حقيقة شخصية السيد المسيح ببساطة فيقول " فمن أين جاء عام 1970م هل جاء من شخص لم يعش أو لم يلعب دورًا هامًا في التاريخ فأنت تقول إن يسوع المسيح لم يعش، ولكنك تعد السنين من يوم ولادته! طبعًا كان الوقت موجودًا قبله، ولكنه لما جاء إلى العالم بدا الناس وكأن كل ما سبقه لم يكن له أي قيمة وإن الوقت الحقيقي بدأ عند ولادته. فصحيفتك الشيوعية هذه لهى الدليل الأعظم على إن المسيح عاش حقًا وإنه لم يكن خيالًا(41). حقًا قال القديس أغسطينوس " يا إلهي سيظل القلب مضطربًا، ولن يجد راحته إلا فيك"(42)(43).