ز- وجود الله لا يلغى وجود ولا كرامة الإنسان:
لماذا خلق الله الإنسان؟ لم يخلق الله الإنسان ليعبده، ولا ليسخره، ولا ليسلب حريته. إنما ليتمتع معه بالوجود، ومنحه الحرية التي بها يستطيع أن يعصى كلام الله ذاته... لقد ظنوا إن الله يلغى وجود الإنسان، ولم يدركوا إن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، وتوجه ملكًا على الخليقة " وقال الله لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى كل الدبابات التي تدب على الأرض، فخلق الإنسان على صورته... وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا وإملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تك 1: 26-28).

ويقول القديس غريغوريوس النيزنزي " أيها الإنسان تأمل في كرامتك الملوكية. إن السماء لم تصنع على صورة الله مثلك ولا القمر ولا الشمس ولا شيء مما يرى في الخليقة. انظر... لا شيء في الموجودات يستطيع أن يسع عظمتك"(44) ويقول الفيلسوف المسيحي أوليفيه كلمانت " الله يتقدم ويعلن عن حبه، ويرجو أن يحيا الإنسان عليه... فإذا رفض انتظر على الباب، ومقابل كل الخير الذي صنعه لنا لا يطلب إلا حبنا، ولقاء هذا الحب يعتقنا من كل دين"(45) واحد العائدين إلى الإيمان سئل ما أكثر موقف أثر فيه وشده إلى الإيمان بالمسيح، فقال موقف يسوع مع تلميذيّ عمواس إذ لم يرد أن يقدم نفسه عليهما فلم يدخل معهما البيت إلا بعد أن ألزماه بذلك، فهو لا يفرض نفسه أما الشيوعيون فإنهم لا يكفون عن فرض مبادئهم عنوة وقسرًا بواسطة المدارس والمذياع والصحف والإعلانات والسينما والاجتماعات وفي كل وقت لا يكفون عن دعاياتهم الجهنمية، وكان المؤمنون يتعرضون إلى عملية غسيل المخ لمدة سبعة عشر ساعة يوميًا إذ يسمعونهم: الشيوعية حسنة... الشيوعية حسنة... الشيوعية حسنة... المسيحية سخيفة... المسيحية سخيفة... المسيحية سخيفة... ليس من يحبكم فيما بعد... ليس من يحبكم فيما بعد... ليس من يحبكم فيما بعد... فاستسلم... استسلم... استسلم...

وقال " بردياييف "بعد عودته للإيمان " إن كرامة الإنسان تفترض وجود الله... وإنكار الله يجر معه إنكار الإنسان"(46) كما قال "إن فكرة إخاء البشرية والشعوب فكرة ملازمة للمسيحية في شكلها النقي، وبالمسيحية يمكننا أن نغرس الملكوت في النفوس, فتعرف الله"(47) وإن كانت المسيحية تهتم بالفرد اهتمامها بالجماعة، فإن الشيوعية تضحى بالفرد في سبيل الجماعة، فقد استولوا على كل الأملاك الشخصية فصارت ملكًا للدولة، ولم يجد أصحاب هذه الأملاك قوت أولادهم، وحارب الشيوعيون كل ما هو شخصي، حتى إنهم سجنوا شخصًا لأنه كان بحوزته كتاب "علم النفس الشخصي " وصرخ ضابط البوليس في وجهه " شخصي! أليس كذلك؟ دائمًا شخصي! لم لا جماعي؟!"(48).








ورغم إن فيشبنسكى سكرتير الدولة في رومانيا قال " ستبنى هذه الحكومة فردوسًا أرضيًا، وعليه لن تكون بحاجة إلى فردوس سماوي"(49) وصدقه الكثيرون حتى إن أحد الكهنة ويدعى سرجيوس كون كنيسة باسم " الكنيسة الحية " وقال " ليس قصدنا أن نعيد بناء الكنيسة إنما هدمها وإبادة الديانة كليًا"(50) ولكن خابت آمال هؤلاء الملحدين إذ أن الشيوعية لم تجلب لهم سوى التعاسة والشقاء... تأمل فيما كتبه الكاتب المشهور " و.و. ساندور " في مجلة " أمريكان ماجازين " في نوفمبر 1930م، وبعد أن وصل به الإلحاد إلى شخص لا يدرى شيئًا، و"اللالتريون" مذهب إلحادي ظهر في القرن الرابع قبل الميلاد (نحو 340 ق.م) ومن قادة هذا المذهب " شيشرون "و " ارسيزيلاس "و " كاردينا " وأصحاب هذا المذهب ليس لهم رأى محدد في القضايا الإيمانية والأمور الروحية، لا بالإيجاب ولا بالسلب، محتجين بأن حكم الناس على حدث واحد يختلف من شخص إلى آخر. بل إن الشخص الواحد في حكمه على حدث ما قد يختلف حسب أحوال ومزاج هذا الشخص، ويقولون إن الشرائع والقوانين في الدول متباينة، ولذلك يصعب في نظرهم تحديد رأى محدد وواضح، فهم لا يقولوا "نعم " ولا يقولوا "لا " إنما يقولون نحن لا ندرى، ومن هنا جاءت تسميتهم ب "اللادريين " فإن سألتهم عن طبيعة الله يقولون لا ندرى، وإن سألتهم عن وجود الله يقولون أيضًا لا ندرى، ونورد هنا فقط بعض من عبارات "و. و. ساندور" المؤثرة للغاية حيث يقول "دعني أقدم لكم إنسانًا يشعر بالوحشة والتعاسة أكثر من أي إنسان آخر في العالم... هو إنسان يقول "لا أدرى " فهو لذلك بلا إله ويسمونه ملحدًا... إنني لصاحب صلاحية خاصة في أن أقدم لكم هذا الإنسان لأنني أنا هو " نعم " أنا نفس ذلك التعيس " اللاأدرى ".. اللاأدريين قد انتشروا في كل مكان... وربما يدهشكم أن تعرفوا أن "اللاأدري " يحسدكم على إيمانكم بالله وثقتكم بالحياة بعد الموت ويغار من رجائكم المبارك بأن تلاقوا أحبائكم في الأبدية حيث لا وجع ولا موت، وتمنى (اللاأدرى) أن يعتنق إيمانكم لكي يتعزى به... وأما هو فليس له إلا القبر وانحلال المادة الأولية... أتساءل: هل هذا العبث هو غاية الحياة البشرية وثمر مجهوداتها..؟! قد يتظاهر " اللاأدرى "بالشجاعة ويواجه الحياة بابتسام ولكنه ليس سعيدًا... وإذ يقف منذهلًا أمام سعة الكون وجلاله، وهو لا يعلم من أين أتى أن لماذا جاء، وينظر بهول إلى فسحة الفضاء وعدم محدودية الوقت، ويشعر بصغر نفسه وضعفها وقصر حياته. ألا تظنون أنه مثلكم يريد أن يكون له إيمانًا يستند إليه ورجاءًا يقويه؟! أنه هو أيضًا يحمل صليبًا... فاللاأدرى... يتأثر تأثرًا عظيمًا من قوة إيمانكم إذ يشاهد كيف يتغير السكارى ويتجدد الإباحيون وقد رأى المرضى والشيوخ والمتروكين وهم يتعزون، وأعجبه أعمال هذا الإيمان الخيرية من إنشاء المدارس والمستشفيات والملاجئ... إن هذه الأرض في نظره ما هي إلا رمث طاف في بحور الأبدية لا نور لها ولا أفق، وفي قلبه وجع وهم لأجل الطافين عليها معه أن يحملهم التيار إلى حيث لا يدرون(51).

وقالت "سيمون دى بوفوار" صديقة سارتر في رسائلها إليه " لقد كنا أحقر مما يتصورون"(52) وبعد أن قتل " ستالين " معظم رفاقه أصبح يخشى الاغتيال فخصص ثمان حجرات للنوم تغلق جميعها بإحكام، ولا يعرف أحد في أي حجرة يبيت، ولم يكن يتذوق طعامه إلا إذا تذوقه طاهيه أولًا... فأي حياة هذه؟! وزادت نسبة الانتحار، فالكاتب الكبير الملحد " فاديف " بعد أن أنهى كتابه روايته " السعادة " والتي قال فيها إن السعادة تأتى من العمل الدءوب من أجل الشيوعية، أطلق الرصاص على نفسه بعد الفراغ من روايته(53) وقال المفكر الملحد " دانتك " إن " أول نتيجة للإلحاد- إذا عم - أن يكثر الانتحار حتى يصير كالوباء(54).

ح- الكتاب المقدس:
ليس الكتاب المقدَّس مؤلف أسطوري كما قال أهل الإلحاد، إنما هو كتاب الحياة الموحى به من الروح القدس، ويحمل علامات صدقه داخله، فما حواه من نبوءات تحقق معظمها، والآخر في طريقه للتحقق لهو أعظم شاهد على صحة الكتاب المقدَّس، فقد حوى هذا الكتاب العجيب ليس نبوة أو بعض نبوءات، إنما حوى مئات النبوءات العجيبة والتي كان يصعب تصديقها لحظة النطق بها، وهناك فقط نحو ثلثمائة نبوءة نطق بها أنبياء مختلفين، ذوى ثقافات مختلفة، وأعمال وأعمار متباينة، وفي عصور متتالية، وفي عدة أماكن وجميعها تتعلق بشخص السيد المسيح، وقد تحقق معظمها، حتى إنه خلال الأربعة والعشرين ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض تحقق نحو ثلاثين نبؤة، ويقول " د. بيتر سوفر " أحد علماء الرياضيات في إحدى جامعات أمريكا إن احتمال تحقق 48 نبوءة على شخص واحد هو احتمال ضئيل جدًا جدًا، ولو حسب بلغة الأرقام فإنه يساوى 1:10(17)، أي واحد إلى واحد على يمينه 18 صفرًا، ولتقريب المعنى قال لو غطينا أرض تكساس بالكامل بدولارات فضية بسمك 60 سم، وفي كل هذا الكم الهائل وضعنا علامة على دولار واحد، فإن الفرصة عثورنا على هذا الدولار لأول مرة نبحث عنه هي فرصة ضئيلة جدًا جدًا وتساوى 1:10(17).

كما إن الآثار تثبت يومًا فيومًا صحة كل ما جاء في الكتاب المقدَّس(55). أما تأثير الكتاب العجيب في تغيير النفوس فهو شاهد عظيم على سماوية هذا الكتاب، فعندما قام " تشارلز داروين " صاحب نظرية " النشوء والارتقاء " بجولة حول العالم وعرف تاريخ الأمم، كتب في جرناله (يومياته)(56) يقول إنه لم يكن هناك بلدًا أسوا من نيوزيلاند قبل إيمانها، وعندما عاد إلى إنجلترا وجدهم يفتقدون بشدة المبشرين ما قد صار في نيوزيلاندا من إلغاء الذبائح البشرية التي تقدم تحت سيطرة كهنوت وثنى لم ير العالم مثيلًا له في الشر، ومنع (الإيمان بالمسيح) قتل الأطفال، وأنهى الحروب الدموية التي لم تكن تشفق على طفل ولا على امرأة، وقلل الغش والسكر والفحشاء، وذلك بإدخال المسيحية فيها، ولو ارتطمت سفينة على جزيرة غير معروفة لصلى الإنسان صلاة حارة وتمنى أن يكون أهلها قد سمعوا بتبشير المبشرين حتى يطمئن على حياته...

إن عمل المبشر هو بمثابة عصا الراقي، فترى البيوت تبنى والحقول تحرث والأشجار تغرس بأيادي نفس النيوزيلانديين. إن التحسن المطرد الناتج عن انتشار الإنجيل في جزر البحر الهادي لهى من النوادر في التاريخ(57).

وأيضًا المعجزات التي تصاحب المؤمنين بالكتاب المقدس من جيل إلى جيل هي شاهد عيان على حقيقة وجود الله وصحة كتابه المقدس، ومهما أنكر الإلحاديون المعجزات فلم ولن ينجحوا في هذا، وعندما أراد أحد أساتذة الشيوعيين أن يعطى مثلًا عمليًا في أحد الاجتماعات على تكذيب معجزة قانا الجليل، أحضر ماء، ووضع فيه مسحوق أحمر فتحول الماء إلى اللون الأحمر وقال " هذه هي المعجزة بكاملها، فقد خبأ يسوع في كمه مسحوقًا من هذا النوع، وادعى أنه حول الماء إلى خمر بتلك الصورة العجيبة! ولكنني أستطيع أن أفوق عمل يسوع، فأنا أقدر أن أعيد هذا الخمر إلى ماء مرة أخرى(58) ثم وضع مسحوقًا آخر فعاد الماء إلى اللون الأبيض، ثم عاد ووضع من المسحوق الأول فتحول اللون إلى الأحمر ثانية... فقال له أحد المؤمنين: حقًا لقد أدهشتنا أيها الأستاذ الرفيق بما استطعت أن تفعله، ونحن نسألك الآن أن تفعل شيئًا واحدًا فقط، ألا وهو أن نشرب جرعة واحدة من خمرك.

الأستاذ: هذا ما لا قبل لي أن أفعله لكون المسحوق مادة سامة.

المؤمن: هذا هو الفرق الشاسع بينك وبين يسوع، فقد وهبنا يسوع بخمره رمز الفرح السماوي لمدة ألفى سنة تقريبًا، فيما حاولت أنت أن تسممنا بخمرك، فألقى القبض على هذا الشاهد الشجاع وطرح في غياهب السجن.

ودائما وأبدًا كان الكتاب المقدَّس هو العدة والسلاح في الحرب ضد الإلحاد... انظر ما كتبه ريشار وورمبرلد وهو يلتمس من مسيحي أوروبا أن يرسلوا إلى الدول الشيوعية الكتاب المقدَّس كلمة الله، فيقول " لا تتخلوا عنا! لا تنسونا! لا تهملونا! قدموا لنا العدة التي نحتاج إليها! لأننا مستعدون أن ندفع ثمن استعمالها... إنني أتكلم باسم الكنيسة التي خنق صوتها. الكنيسة الخفية الخرساء، التي لا صوت لها كي تتكلم. اسمعوا أصوات إخوانكم وأخواتكم في بلاد شيوعية! إنهم لا ينشدون الهرب، أو يطلبون حماية أو حياة سهلة، إنهم يطلبون العتاد فقط لكيما يحموا شباب الجيل القادم من سم الإلحادية. إنهم يطلبون الكتب المقدسة لكي ينشروا كلمة الله، فكيف يمكنهم أن ينشروها إن لم تكن في حوزتهم.

تشبه الكنيسة السرية جراحًا كان يسافر في قطار، فاصطدم القطار بقطار آخر، وترك وراءه مئات الجرحى على الأرض بحالة رضوض وكسور وموت، فأخذ هذا الجراح يتعثر بين هؤلاء المصابين وهو يصرخ آه، لو كانت عدتي معي!.. آه، لو كانت عدتي معي!.. فلو عدته معه لاستطاع هذا الطبيب أن ينقذ حياة كثيرين، لأنه كان مستعدًا أن يقوم بالعمل، ولكن... لكن نقصته عدة الطبابة. لذلك بقى مكتوف اليدين. هذا هو واقع الكنيسة الخفية، فهي مستعدة أن تضحى بكل ما تملك! وهي مستعدة بالتالي أن تستشهد في سبيل المسيح، وهي مستعدة أن تجازف بحياة سنين طويلة في سجون شيوعية! ولكن... لكن جميع استعداداتها لا تأتى بنتيجة إن لم تملك عدة العمل. فتوسل الأمناء والشجعان في الكنيسة السرية إليكم أنتم الأحرار هو هذا: قدموا لنا العدة من كتب مقدسة، بشائر وكتب مسيحية أخرى(59)..

ووصل إلى ريشار كتب مقدسة مهربة عبر الأسوار المنيعة، وفي أحد الأيام جاء إليه رجلان قادمين من إحدى القرى للعمل في المدينة لاكتناز بعض المال بغية شراء كتاب مقدس قديم، ولم يصدقا أعينهم عندما قدم لهم ريشار كتابًا جديدًا ومجانًا، وبعد أيام قليلة استلم ريشار رسالة شكر حارة موقع عليها من ثلاثين شخصًا قسموا الكتاب المقدَّس إلى ثلاثين جزءًا استبدلوها فيما بينهم، فأن الشخص في الدول الملحدة كان مستعدًا أن يتنازل عن بقرته التي تمثل كل ثروته مقابل الحصول على كتاب مقدس، وأحد الأشخاص استبدل خاتم زواجه بعهد جديد(60).