مبادئ هامة لتفسير الكتاب المقدس

إن الوحي كُتِب ليُفهم. والله لم يقصد مطلقاً أن يكون الكتاب المقدس وقفاً على فئة من أصحاب العقول الجبارة أو الإمكانيات الفذة، على العكس كثيراً ما كانت الدراسات الفلسفية عائقاً على فهم الكتاب لا مساعداً له لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك (مت11: 25،26). وسنورد فيما يلي بعض المبادئ التي تساعد على تفسير الكتاب المقدس.

1- الكتاب المقدس كله لنا، ولو أن ليس كله عنا

فكثير من أقوال العهد القديم، بل وبعض الأقوال في الأناجيل ليست عنا، ولو أن كل الكتاب نافع للتعليم، وبالتالي كله كتب لأجل تعليمنا. فالممارسات الخاصة بالذبائح في سفر اللاويين لا تخصنا في معناها الحرفي المباشر، ولو أن ما أكثر التعاليم التي لنا فيها عندما نطبقها على المسيح. والتعبير الذي ورد في متى 24: 20 صلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت ليس عنا، ولو أن لنا فيه تعاليم روحية مباركة. في هذا قال القديس أغسطينوس كلمات حكيمة "مَيِّز بين التدابير المختلفة، ينسجم الكتاب مع بعضه".

2- الكتاب المقدس يشرح نفسه

فأفضل شارح للكتاب المقدس هو الكتاب المقدس نفسه. فإذا تعذر عليك أن تفهم أي شئ في الكتاب المقدس؛ استمر في القراءة، وسرعان ما تجد أن ما استشكل عليك في البداية فهمه صار واضحاً ومفهوماً لديك. وفى هذا قال أحد الحكماء: "لا تدع شيئاً يسلب منك حقاً سبق لك أن فهمته بوضوح من كلمة الله، وانتظر بصبر أن تفهم باقي الآيات التي لا تقدر أن تفهمها". ثم هذا يتطلب منا درس كل الكتاب، لأن نصاً واحداً بخصوص أية حقيقة، لا يكفي أن يعلن لنا كل جـوانب هذه الحقيقة، فالآيات التي تتحدث عن موضوع متشابه، تفسر وتكمل إحداها الأخرى. كما قال المسيح للشيطان مكتوب أيضاً (مت4: 7).

3- لا تعارض في آيات الكتاب المقدس

لقد شبه أحدهم الكتاب المقدس بالكلمات المتقاطعة. فقد يطلب منك كلمة أفقية وتجد من السهل عليك أن تذكر أكثر من كلمة واحدة، ولنفترض أنك اقترحتكلمة من هذه الكلمات، ما الذي يجعلك متأكداً أن اقتراحك هذا صحيح لو اتفق هذا الاقتراح مع باقي الكلمات الرأسية المتقاطعة مع كلمتك، فهذا دليل على أن اقتراحك كان صحيحاً، أما إذا لم يتفق فعليك أن تفكر من جديد في كلمة أخرى. هكذا الكتاب المقدس؛ ينبغي أن يتوافق كله مع بعضه، فإذا اقترحت تفسيراً للآية ووجدت أن هذا التفسير يصطدم مع آية أخرى في الكتاب فهذا دليل قاطع على أن هذا التفسير غير صحيح، فالتفسير الصحيح يجب أن يتوافق لا مع بعض تعاليم الكتاب، بل معها كلها. وبناء على هذه النظرية يمكننا أن نقول إن الآيات العسرة التي يصعب فهمها، يمكننا أن تفسرها في ضوء الآيات السهلة التي فهمتها.

4- النص والقرينة **** & Con****

فالفصل الذي أُخذت منه الآية يلقى الضوء على الآية، بينما النصوص المبتورة يمكن أن توصلنا إلى أشر التعاليم. لا شك أن جماعة شهود يهوه الذين يدعمون تعاليمهم المضللة بآيات من الكتاب، يستشهدون بآيات مبتورة، ويتعاملون مع جانب واحد من الحق، إنهم ينظرون بعين واحدة إلى الكتاب. فلكي تفهم الكتاب يجب أن تلحظ القرينة للكلمة أو الآية؛ أعني ما قبلها وما بعدها، وكذلك الجو العام للأصحاح، لأن آيات الكتاب المقدس، كما أوضح بطرس، لا تُفهَم من تفسيرها الخاص بها بل يجب أن تكون متمشية مع الكتاب المقدس كله (انظر2بط 1: 20)

5- المعنى الحرفي والمعنى المجازى

إذا كان المعنى الحرفي المباشر والبسيط يستقيم مع باقي تعاليم الكتاب المقدس فلا تبحث عن معنى آخر، أما إذا اصطدم بآيات أخرى، أو لم يكن له معنى معقول مقبول، فإننا نأخذ المعنى المجازي لا الحرفي. فمثلاً قول يوحنا المعمدان عن الرب يسوع هوذا حمل الله (يو1: 29)، واضح أن تعبير الحمل هنا مجازي؛ بمعنى أنه الذبيحة المعينة من الله، والتي تناسب الله لرفع حالة الخطية والتشويش من هذا الكون. وكذلك الآية التي وردت في عظة الجبل والتي تقول إن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك
(مت5: 29)، هذه الآية لا تُفهم حرفياً؛ لأن الكتاب يعلمنا أن نعتني بأجسادنا، ثم إنه لو قلعت عيني اليمنى سأنظر وأشتهي بعيني اليسرى، فالخطية منبعها القلب. أما التفسير الصحيح لذلك أننا نضحي بأغلى شئ ولو كان في غلاوة العين اليمنى، حتى لا نخسر الحياة الأبدية.

أما عندما يلزم أن نأخذ التفسير المجازى، فإننا نبحث عن نفس المجاز في باقي الكتاب المقدس، ولا سيما مبدأ الإشارة الأولى (الذى سنتكلم عنه فى النقطة التالية). فمثلاً كان الرب يقصد معنى مجازياً عندما حذر تلاميذه من خمير الصدوقيين والفريسيين. الكتاب المقدس كله يعتبر الخمير صورة للشر والخطية. وإذا أخذنا الإشارة الأولى للخمير في الكتاب المقدس، فإن الرب حذر الإسرائيلي من أن يأكل خروف الفصح إلا بعد أن يطهر الخمير من مساكنه (خر12: 15)، وهكذا.

6- قانون الإشارة الأولى

شّـبه بعضهم الكتاب المقدس بخزانة مملوءة بالأطعمة أو إن شئت بالكنوز، وأن المفتاح لهذه الخزانة هو على الباب. وعليه فإن الإشارة الأولى لأية كلمة في الكتاب المقدس يكون لها مدلولات قوية تساعد بعد ذلك على تحديد المعنى المقصود من هذه الكلمة في كل الكتاب. فإذا فهمنا جيداً هذا المبدأ كم يصبح سفر التكوين غنياً وثميناً لدارسي الكتاب، إذ سنجد فيه ما لا يحصى من الأفكار التي ترد في الكتاب لأول مرة. لقد دُعي هذا السفر بحق "مخزن بذار الكتاب المقدس".

7- قانون الإشارة المتكررة (الإعلان المتدرج):

فلا تكرار لمجرد التكرار في كلمة الله، فعندما يكرر الرب أية فكرة سبق ذكرها، فلابد أنه يريد أن يلقى ضوءاً جديداً على جانب لم يسبق أن أوضحه قبل ذلك، كقول إشعياء النبي هنا قليل هناك قليل (إش 28: 10). ولعل أوضح الأمثلة لذلك ما ورد في تكوين 1، 2 فلقد كرر الرب الإشارة إلى عملية خلق الإنسان في تكوين 2 وذكر عدة تفصيلات لم ترد في الفصل الأول.

أساليب الدراسة المختلفة للكتاب المقدس

1- أسلوب دراسة الأسفار


هذه أهم وأبسط طرق دراسة الكتاب المقدس وأكثرها انتشاراً، وننصح بها بالنسبة للمبتدئين فى الدراسة. وفى هذه الحالة يفضل الابتداء بالأسفار الأسهل فالأصعب. العهـد الجديد أولاً ثم القديم. ولكن بالنسبة للمتقدمين فى الدراسة ننصح أن تتم الدراسة بترتيب الأسفار، فنتفادى بذلك التركيز على أسفار بعينها على حساب إهمال أسفاراً أخرى.

وفى دراسـة الكتاب بهذه الطريقة هناك أسلوبان يكملان بعضهما ويطلق عليهما أحياناً "الدراسـة التليسكوبية" و "الدراسة الميكروسكوبية". فالتلسكوب هو ذاك الجهاز الذي يدهشنا بعظمة اتساع الكون الهائلة، بينما الميكروسكوب هو جهاز يدهشنا بدقة مكوناته المذهلة. هذان الأسلوبان يذكراننا برجلين لله في العهد القديم هما موسى ويشوع. الأول أخذه الرب فوق جبل نبو وأراه الأرض كلها دفعة واحدة (تث34)؛ لقـد شاهد منظر كل أرض كنعان من فوق، ولو أنه لم يسمح له بأن يمشى فيها. وما كان أجمل منظر الأرض البهية بالنسبة له! أما الشخصية الأخرى فهى شخصية يشوع بن نون. هذا الرجل سمح له الرب أن يسير في رحاب أرض عمانوئيل شبراً شبراً. لقد قال له الله في الأصحاح التالي لكلام الرب مع موسى كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته (يش1: 3). وهو ما تحقق فعلاً على عهد يشوع، لقد سار فيها برجليه، وامتلكها فعلاً.

هكذا تماماً كل من الدراسة التليسكوبية والدراسة الميكروسكوبية؛ في النوع الأول من الدراسة نحن نأخذ فكرة عن السفر دون الخوض فى تفاصيله الدقيقة. هذه النظرة للسفر يسميها البعض "نظرة عين الطائر"، ستعطيك مجالاً واسعاً ونظرة شاملة دون تعمق. فعن طريق قراءة السفر كله في جلسة واحدة، إن أمكن (وإن كان صغيراً تعاد قراءته عدة مرات)، ستفتح أمامك معاني لم تكن تحس بها من قبل، وستشعر بالرابطة الجميلة بين مفردات السفر التي لم تكن تلحظ العلاقة بينها.

من المهـم في هذه الدراسة أن تحاول معرفة الطابع العام للسفر، وكذا ملاحظة تكرار كلمـات بعينها فيه مثل: كلمة "الفرح" في رسالة فيلبى، أو "السلوك" في رسالة أفسس، أو "السيرة" في رسالتى بطرس، أو كلمة "أفضل" في رسالة العبرانين... وهكذا.

وقبل أن تترك هذه الدراسة اعرف من هو كاتب السفر، وفي أي زمن كتب، والظروف المحيطة به وقت كتابة السفر. فسيكون جميلاً عندما تلاحظ مثلاً أن رسالة فيلبي التي طابعها الفرح كتبها بولس وهو فى القيود مسجوناً!

وبعد هذه الدراسة يأتي دور الدراسة الميكروسكوبية، التى تنفذ إلى دقائق الموضوع؛ فيقسـم السفـر إلى أقسام، ثم الأصحاح إلى أقسام أصغر حتى نصل إلى الآية. بل الآية الواحدة نفسها نبدأ بمحاولة فهم كل كلمة منها.

وبعد أن تكون قد فهمت القصد من الآية، يمكنك أن تتأمل فى الكتاب المقدس لتعرف أين ترد التعاليم أو الأقوال المتشابهة، وما النور الجديد الذى حصلت عليه من هذا الفصل، فكما ذكرنـا قبلاً في مبادئ التفسير أنه لا يوجد في كلمة الله تكرار لمجرد التكرار، بل إن الله إذا كرر الكلام فى أى موضوع فإنما لإبراز جانب معين أو لإلقاء نور إضافي عليه.

2- أسلوب دراسة الموضوعات

هذه هي نفس الطريقة التي استخدمها ربنا يسوع مع تلميذي عمواس، عندما شرح لهما الأمور المختصة به فى جميع الكتب (لو24 : 27). هذه الدراسة تصلح للمتقدمين نسبياً فى كلمة الله. كأن تدرس مثلاً موضوع الصليب أو موضوع النعمة أو الكنيسة أو مجيء المسيح الثاني، أو الدينونة، فتتبعه في كل أسفار الكتاب المقدس. أو تدرس موضوع الصلاة فتتتبع رجال الله القديسين في صلواتهم من أول الكتاب إلى آخره، وكذا التحريضات الكتابية على الصلاة وما ورد عن نتائجها، وكذا شروطها ومعطلاتها... الخ. وما يقال عن الصلاة يقال أيضاً عن الصوم أو عن الخدمة أو عن التكريس. . . الخ.

تحت هذا العنوان نشير أيضاً إلى دراسة موضوعات رمزية جميلة؛ مثل خيمة الاجتماع أو هيكل سليمان أو الذبائح. . . الخ، لاستخلاص الدروس الروحية المستفادة منها. أو دراسة موضوعات عامة كالتدابير؛ أي طرق تعامل الله مع البشر على مر العصور، وكذا العهود المختلفة، أو معجزات المسيح أو أمثال المسيح وهكذا.

وستجد لذة خاصة عند دراستك لرحلات شعب الله من مصر إلى كنعان، وكذا رحلات بولس الرسول الواردة فى سفر الأعمال، وتاريخ الكنيسة النبوي (رؤ2، 3) وغيرها وغيرها.

3- أسلوب دراسة السير أو الشخصيات الكتابية

وهـذه الطريقة واضحة من اسمها، وفيها يتم دراسة كل ما ذكره الكتاب المقدس عن هذه الشخصية. ابحث عن معنى اسمه واكتشف مدى انطباق المعنى على حياته. حاول أيضاً أن تعرف في أي زمن عاش والظروف المحيطة به وأسماء معاصريه من الشخصيات البارزة، ومن ذلك ادرس التشابه الذي بين أيامه وأيامنا الحاضرة لاستخراج الدروس العملية بالنسبة لنا. حاول اكتشاف نواحي القوة في حياته ونواحي الضعف ومسبباته، وكذا في أي شئ يرمز للمسيح.

أعتقد أنه من الأفضل أن تبدأ بدراسة الشخصيات المعروفة كإبراهيم ويوسف وموسى وداود . . . الخ. وبعد ذلك الشخصيات الأقل انتشاراً في الكتاب المقدس مثل جدعون ويوناثان ويوشيا . . . حتى نصل إلى شخصيات حلوة لكن لم تشغل فى الكتاب سوى آيات قليلة مثل عكسة (قض 1) وياعيل (قض 4، 5) ويوناداب بن ركاب (2مل 10: 15، أر35) . . . الخ، أو مثل عنى بن صبعون (تك36: 24) أو رصفة بنت أية (2صم 21: 10، 11) أو حنينا رئيس القصر أيام نحميا (نح 7: 2) . . . الخ.

4- أسلوب دراسة الكتاب حسب فئات الناس حولنا
هذه الطريقة تصلح بصفة خاصة فى مجال العمل الفردي. وفيها تدرس كل ما يقوله الكتـاب المقدس لفئات الناس المختلفة؛ الآباء والأبناء، الأزواج والزوجات، وكذلك ما يصلح فى الكتاب للمتألمين، أو المرضى، والمضطهدين وأيضاً ما يناسب المتشككين أو اليائسين. وأيضاً ما يقوله الكتاب المقدس عن السكيرين والمستبيحين. وأيضاً المتهاونين والمؤجلين . . . وهكذا.