ما هي دوافع الإلحاد
ج: من أهم الأسباب التي دفعت الإنسان إلى الإلحاد هو ما تعرض له من ظلم وطغيان، وافتقار للحب، وغرق في الشهوات، وأيضًا السقوط في الكبرياء:
أ - الظلم والطغيان:
اتسمت البيئة التي أفرزت لنا الإلحاد بفساد المجتمع وانتشار المظالم من ناحية، ومن ناحية أخرى ضعف الكنيسة وسلبيتها، والافتقار الشديد للحب، فانحرافات الحكام وطغيانهم، وتبرير رجال الدين لهذه الانحرافات أدى إلى الثورة ليس ضد الحكام ورجال الدين فقط بل ضد الدين نفسه وضد الله، فسقطت الشعوب في الإلحاد كنوع من التمرد على السلطة، وكمحاولة للتخلص من الكبت والحصول على الحرية المفقودة، وقد أفرزت هذه المظالم شخصيات غير سوية مثل كارل ماركس، وأفرز لنا الافتقار للحب شخصيات محطمة مثل سارتر، وغيرهما من الملحدين.
ولد كارل ماركس من أسرة فقيرة معدمة، وقد عانى مع أسرته من سخرة الإقطاع والرأسماليين، ورغم أنه كتب في فجر حياته كتابًا باسم " إتحاد المؤمن بالمسيح "قال فيه " إن الإتحاد بالمسيح يعطينا السمو في الباطن، والتعزية في الأحزان، والثقة الهادئة، وتفتح القلب نحو أخوتنا، وكل ما هو سلم ونبيل لأجل مطامعنا وأمجادنا، بل من أجل المسيح(1) وصرح في مقدمة كتابه "داس كبيتال" أن المسيحية في شكلها الإنجيلي الكتابي، هي الديانة المثالية التي تخلق من جديد نفوسًا حطمتها الخطية(2) إلا أنه عندما رأى معاناة الفقراء ورفاهية الأغنياء ظن إن الله يعيش في برج عال لا يهتم بهؤلاء الفقراء المطحونين، وعندما التقى بالفيلسوف اليهودي الملحد "موسى هس" سقاه هذا الملحد السم في العسل، وأطعمه السم في الدسم، وزرع فيه الكراهية لله عدو البشرية وللمسيح.
ثم ترك ماركس نفسه للشيطان فسقط في السحر الأسود فتلفت حياته، حتى إنه يقول في قصيدته نافخ المزمار " إن أبخرة الجحيم تتصاعد وتلف رأسي حتى أجن ويقسى قلبي... أنظر هذا السيف... إنه لرئيس سلطان الظلمة وقد باعه لي(3). وفي قصيدته أولانيم يقول " لقد انتهيت... خربت... ضعفت... وموعدي إلى الانتهاء. ها ساعتي وقت نهايتها... ومسكني قد تهاوى إلى حطام سريعًا... سوف أحتضن الأبدية إلى صدري... وأزمجر باللعنات الرهيبة: أيتها الأبدية أنت مصدر رعبنا الأبدي، أنت الموت الذي لا يوصف... الهلاك الذي لا يقاس، ونحن إلا ساعات آلية عمياء... لا هدف لنا إلا الانتماء للأحداث ثم الهلاك(4).
وقد خلط هؤلاء الملحدون بين المبادئ المسيحية السامية وبين تصرفات المسيحيين الخاطئة، فقال ماركس " إن المبادئ المسيحية تبشر بضرورة وجود طبقة مسيطرة، وطبقة مظلومة، وتكتفي بالتمييز للتقوى، بأن تكون الأولى محسنة للثانية، إن المبادئ الاجتماعية المسيحية تجعل في السماء التعويض عن كل المخازي، وتبرر بذلك استبقائهم على الأرض(5) فأنكر ماركس وجود الله، وظل يحلم بمجتمع مثالي، وهو لا يدرى أن هذا التفاوت الاجتماعي لا سبيل أبدًا للقضاء عليه... لماذا لأنه لو افترضنا إن الإمكانات المتاحة وزعت على الأفراد توزيعًا عادلًا لكيما يعيشوا جميعًا سواسية، فهل الحال سيدوم كلا... لماذا لأن هناك من هو حكيم يحسن استخدام واستثمار موارده، وأخر جاهل مسرف يبدد موارده، فبعد فترة من الزمن طالت أو قصرت، لا بُد أن يظهر التفاوت الاجتماعي ثانية، ومن القصص اللطيفة التي جاءت في التلمود أن موسى النبي أثناء تفقده شعبه وجد رجلًا غنيًا يجلس في الظل يشرف على عامل بناه وابنه يقومان ببناء بيت الغنى في الشمس الحارقة، فتأثر موسى وسأل الله: لماذا لا يكون الكل سواسية! وطلب من الله أن يصنع هكذا، فاستجاب الله لطلبة موسى، وإذ بعامل البناء الذي اغتنى فجأة رفض الذهاب إلى الرجل الغنى ليستكمل بناء البيت. بل وهو متخصص في أعمال البناء أخذ يبحث عن عامل آخر يبنى له بيت أوسع فلم يجد لأن الكل صاروا أغنياء، وانتظر موسى مَنْ يحضر له الماء فلم يأت لأنه صار غنيًا، وترك التاجر تجارته والفلاح زراعته، وتوقفت الحياة تمامًا، فتضرع موسى لله لكيما يعيد الوضع كما كان عليه أولًا.
وقد تأثر الفيلسوف الملحد "نيتشه" من تصرفات المسيحيين وسلوكهم فقال "المسيحي كائن بطال، مغرور، ضائع، إنه غريب عن نشاط الأرض... فلهذا فإن الحياة تنتهي حيث يبتدئ ملكوت الله"(6)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. أما جون بول سارتر (1905 - 1980م) فقد مات والده وهو في سن السنتين من عمره، وتزوجت أمه برجل آخر، وتركته لدى جده، فافتقد حب الأب والأم معًا، وشعر أنه غير مرغوب فيه، فكان يتظاهر بالطاعة لجده وهو يبغضه، وكانت نتيجة هذه الطفولة التعسة أنه قال " لم أكن أحب شيئًا ولا أحدًا "وعندما أحرق سارتر سجادة صغيرة وأراد أن يخفيها شعر وكأن الله يراه ويلاحقه فقال " مرة واحدة شعرت أن الله موجود، حين كنت ألعب بعيدان الكبريت وأحرقت سجادة صغيرة، وفيما كنت أخفى جرمي أبصرني الله فجأة، لقد شعرت بنظرته داخل رأسي... أحس أنني مرئي منه بشكل فظيع وشعرت بأنني هدف حي للرماية، ولكن الاستنكار أنقذني. فقد اغتظت لفضوله المبتذل، لهذا رفضته وجدفت عليه فلم ينظر إلى أبدًا فيما بعد(7) وبدأ سارتر يقتل في نفسه الإحساس بالله، فشعر بالوحدة القاتلة حتى قال " أصبحت راشدًا وحيدًا، لا أب ولا أم ولا مقر لي، وأكاد أكون بلا أسم(8) وبسبب افتقاره الشديد للحب أساء فهم الحياة، فقال " كل إنسان يولد دون مبرر، ويستمر في ضعف، ويموت بلا هدف " وهكذا أصبحت الحياة بالنسبة له بلا معنى.
ب - الشهوة:
يحب الإنسان أن يسير حسب أهوائه وشهواته وفي ذات الوقت يريد أن يستريح من متاعب الضمير... يريد أن يعيش في الخطية والفساد ويود أن يهرب من الدينونة والعقاب، فماذا يفعل.. يلجأ إلى إنكار وجود اله " قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز 14:1) ، ولذلك قالوا إن " وراء كل إلحاد شهوة " وأخذوا يحتجون بحجج جوفاء، فقالوا عدم رؤيتنا لله تؤكد عدم وجوده، وهذا ما احتج به بعض العلماء منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن العشرين إذ أتبعوا المنهج التجريبي أي ما لا يمكن أن تراه العين وتسمعه الأذن وتلمسه اليد ويكون له مقاييس ومكاييل فلا وجود له. كما ادعوا أن الدين ما هو إلا لغز كقول "دافيد هيوم" أحد فلاسفة اللاأدريين " إن الديانة في كل أبوابها لغز وسر لا يحل(9).
وإن كان الإنسان قد يحاول أن يصدق نفسه بأنه " ليس أله " ردحًا من الزمن، ولكن الإحساس بوجود الله في أعماقه يظل يطارده، فيضطر فلاعتراف غير المباشر بوجود الله، وذلك بأن يعلن كراهيته لله، كما قال كارل ماركس إني أريد الانتقام من هذه القوة العلوية التي في السماء(10) وأيضًا مما يؤكد فشل هؤلاء الملحدين في إقناع أنفسهم بأنه لا وجود لله، هو ما نراه قرب نهاية دربهم ومواجهتهم للموت إذ يعترف كثير منهم بوجود الله، وبعضهم يعلن ندمه الشديد وهو على فراش الموت.
ج- الكبرياء:
فالملاك الساقط بسبب الكبرياء لا يزال يعمل في أبناء المعصية، وينفخ فيهم من كبريائه، وقال ماركس في قصائده المشهورة ضد الله " إنني أريد فقط أن أنتقم بكل جوارحي من ذلك ألواح الذي يسكن السماء، متسلطًا على البشر... لقد خطف منى كل شيء... كل العوالم تبخرت بين يديَّ، ولم يبق لي سوى الانتقام المر... سوف أعلو بعرشي فوق الرؤوس"(11) مثلما قال إبليس " أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال، أصعد فوق مرتفعات السحاب أصير مثل العلى" (أش 14: 13، 14).