ط- وصايا الإنجيل:
تنفيذ وصايا الإنجيل في الظروف القاسية دليل قوى على صحة هذا الإنجيل، ويقول ريشار وورمبرلد " ومع إنني أمقت النظام الشيوعي مقتًا شديدًا، فأنا أحب الشيوعيين أنفسهم. أجل، إنني أحبهم من كل قلبي، ومع إن الشيوعيين يستطيعون أن يفتكوا بالمسيحيين، غير أنهم ليس بإمكانهم أن يقتلوا محبتهم نحو قاتليهم، فليست لدى أية مرارة أو ضيق نحو الشيوعيين أو نحو الذي عذبوني(61) كما يقول "قابلت مؤمنين حقيقيين في سجون شيوعية مثقلة أرجلهم بسلاسل حديدية يزيد وزنها على خمسة وعشرين كيلو غرامًا، معذبين بأسياخ حديدية محماة بالنار، مرغمين على ابتلاع كميات من الملح دون أن يقدم لهم الماء فيما بعد، جياعًا مجلودين ومتألمين من البرد، ولكن بذات الوقت كانوا يصلون بحرارة من أجل معذبيهم الشيوعيين. هذا ما لا يمكن للعقل البشرى أن يفسره، فهو محبة المسيح التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس(62).
وعندما سمح لأحد المحكوم عليهم بالإعدام بمقابلة زوجته قبل تنفيذ الحكم قال لها "عليك أن تعرفي يا زوجتي العزيزة إنني أحب قاتلي، فهم لا يعلمون ماذا يفعلون، وطلبي إليك هو أن تجيبهم أنت أيضًا. لا تسمحي للمرارة أن تستقر في قلبك ضدهم باعتبارهم سفاحي زوجك المحبوب"(63).
ومقابل ما تحمله المسيحيون من جلاديهم، قدموا لهم الخير، وأهم ما قدموه لهم هو كلمة الله، فكان ريشار وورمبراند يرسل ابنه الصبي "ميهاى" مع بعض رفاقه يحملون في السر أجزاء من الكتب المقدسة للجنود الروس المنتشرين في شوارع وحدائق رومانيا، وهؤلاء الجنود الذين طالما حرموا من أولادهم لسنين طويلة بسبب انشغالهم بالحروب، كانوا يفرحون بهؤلاء الأولاد ويأخذون منهم البشائر ويقدمون لهم الحلوى، وبواسطة كلمة الله عرف عدد كبير من الجنود الملحدين لله وآمنوا به، وفي عيد استشهاد بطرس وبولس الرسولين شق ريشار طريقه إلى المعسكر الروسي بحجة شراء بعض الساعات من الجنود الروس، فالتف حوله بعض الجنود يعرضون ما معهم من ساعات، فأخذ يتعلل: هذه باهظة الثمن وهذه صغيرة وتلك كبيرة. ثم سألهم بنوع من المزاح: من منكم اسمه بطرس أو بولس
فوجد منهم من تسمى بهذا الاسم أو ذاك، فقال لهم: هل تعلمون من هو بطرس أو بولس
فأجابوه بالنفي، فأخذ يقص عليهم " فقال أحدهم: أنت لم تأت من أجل الساعات بل من أجل البشارة بالمسيح، وهؤلاء الجنود محل ثقة، فاستمر في حديثك، وإذا أقبل أحد الجنود غير الموثوق فيهم سأضع يدي على ركبتي فتحدث عن الساعات، حتى إذا ذهب هذا الشخص ورفعت يدي، يمكنك أن تستكمل حديثك، وتكررت اللقاءات حتى آمنوا.
ورغم إنه كان غالبًا عضوًا من كل أسرة من أهل رومانيا يلقى في غياهب السجون يلاقى الأهوال، ولا يعرفون عنه شيئًا، ورغم ضيق اليد للمؤمنين الذين حافظوا على إيمانهم سرًا، فإن الكارزين بالمسيح كانوا يقفون في الشوارع يرنمون ويعظون، وقبل أن تصلهم الشرطة إليهم كانوا يختفون عن الأنظار، وكان البعض يجاهر بإيمانه متحملًا تبعة ذلك من عذابات تصل إلى حد الموت، ففي إحدى المرات اندفع شخصان نحو رئيس الحكومة "جورجيو ديج" وشهدا أمامه عن المسيح فأمر بالزج بهما في السجن، ولكن شهادتهما أثمرت لأن جورجيو وهو في نهاية حياته طريح الفراش عاد إلى الإيمان بالمسيح، وكان المؤمنون يطيعون النبذات التي تحمل صور كارل ماركس، وتحت عنوان " الدين أفيون الشعوب " وعلى الصفحات الأولى اقتباسات عن ماركس ولينين وستالين، ثم تحمل الصفحات التالية رسالة الخلاص، وطالما قاموا ببيع هذه النبذات وسط المظاهرات الشيوعية، واختفوا عن الأنظار قبل القبض عليهم.
ى- صلابة الإيمان:
لقد فعل الشيطان وجنوده وأعوانه كل ما يستطيعون أن يفعلوه بأبناء الله الأمناء، فيكفى اعتراف الإنسان بأنه مسيحي ليزج به في سجون سيبيريا حيث يلاقى الأهوال حتى الموت، أما إذا كان صاحب شخصية مرموقة فإنهم يكتفون بنفية خارج البلاد، وقصص الشهداء والمعترفين في الدول الملحدة التي لا حد لها تسيل الدموع وتدمى القلوب، وإذ أجدني مدفوعًا بقوة لا تقاوم أقدم لك يا صديقي أمثلة قليلة مشرفة من هؤلاء الأبطال الذين دفعوا ثمن الإيمان بالعذاب والعرق والدم والموت، وإليهم يرجع الفضل في القضاء على الإمبراطورية الشيوعية، كما قضى آباؤهم في الإيمان منذ القديم على الإمبراطورية الرومانية الوثنية.
لقد أغلق الشيوعيون الملحدون عددًا كبيرًا من الكنائس، وتركوا القليل كنوافذ للضبط والمراقبة للمؤمنين، وكان معظم رعاة هذه الكنائس من عملاء البوليس السري يتعاونون مع الشيطان ضد أبنائهم، ولكن قليل من هؤلاء الرعاة كانوا أمناء لدرجة الموت، ففي إحدى المرات ذهب ضابط ليقابل قسًا في هنغاريا بمفرده، فلما اقتاده هذا القس إلى غرفة وأغلق الباب، التفت الضابط للصليب المعلق على الجدار، وقال للقس محتدًا "إنك تعلم أن هذا الصليب هو كذب وبهتان، فهو ليس أكثر من مجرد خدعة تستخدمونها أنتم أيها القسوس لتغشوا هذا الشعب المسكين... اعترف لي إنك لم تؤمن يومًا أن يسوع المسيح هو ابن الله الحي.
فابتسم القس وقال: أنا أؤمن بأن يسوع المسيح هو ابن الله الحي أيها الشاب المسكين، فهذه هي الحقيقة، وصرخ الضابط وقد صوب مسدسه نحو القس قائلًا: إن لم تعترف لي أن هذا كذب لسوف أطلق النار عليك.
القس: أنا لا أستطيع أن أعترف بذلك لأنه غير صحيح، فربنا يسوع المسيح هو ابن الله بالحق والصدق.
فألقى الضابط بمسدسه على الأرض واحتضن القس والدموع تترقرق في عينيه قائلًا " هذا هو عين الحق والصواب. هذا هو الصدق، فأنا أيضًا أؤمن بذلك، ولكنني متشككًا فيما إذا كان الناس مستعدين أن يستشهدوا في سبيل إيمانهم هذا، إلى أن تحققت من ذلك بنفسي. آه، إنني لشاكر لك، فقد قويت إيماني، والآن فأنا أستطيع أن أموت من أجل المسيح، فقد أريتني كيف يمكن أن يكون ذلك(64).
ويصف ريشار وومبراند شيئًا من العذابات التي تعرض لها أبطال الإيمان في البلاد الملحدة فيقول " عذب " فلورسكو " أحد قسوس الكنيسة بواسطة أسياخ حديدية محماة بالنار وبالسكاكين أيضًا، وقد عذبوه بضراوة، ثم أطلقوا جرذانًا جائعة بواسطة أنبوب حديدي إلى غرفة سجنه، فلم يستطع النوم بتاتًا إذ حاول أن يدافع عن نفسه بطردها عنه، ومتى توقف قليلًا كانت الجرذان تهاجمه وتنهش جسمه، ولقد اضطر أن يقف على رجليه لمدة أسبوعين كاملين... لمدة أسبوعين كاملين ليلًا ونهارًا، فقد أراد الشيوعيون أن يرغموه على تسليم إخوانه في الإيمان، ولكنه قاوم تعذيبهم بشدة وصبر.
وفي النهاية أحضروا ابنه الذي كان له من العمر أربع عشرة سنة فقط، وأخذوا يجلدونه أمامه بسياطهم قائلين له إنهم سيستمرون بضربه إلى أن يعترف لهم بما أرادوه منه، فكاد الرجل المسكين أن يجن، وقد تحمل قدر استطاعته، ولكنه لما عجز عن الاحتمال نظر إلى المتألم وقال له (يا ولدى أسكندر، على أن أعترف لهم بما يريدونه، فلا أستطيع أن أراهم يضربونك فيما بعد) فأجابه ابنه (يا والدي لا تظلمني بجعل نفسك والدًا خائنًا. أثبت يا والدي، فإن قتلوني فسأموت على شفتي الكلمات يا يسوع ومسقط رأسي) وعلى إثر ذلك جن جنون الشيوعيين وانهالوا يكيلون للابن الضربات القاسية إلى أن أزهقوا روحة الطاهرة، والدم يتناثر على جدران الغرفة في السجن. لقد مات وهو يحمد الله (أيها الفتى إسكندر أطلب من أجل ضعفي).
لقد كبلوا أيدينا بقيود حديدية ذات أسنان حادة من الداخل، فهي لا تؤثر علينا إن لم نأت بحركة، ولكن عندما كانت غرفنا باردة وارتعدنا من البرد القاسي، نهشت تلك الأسنان أيدينا إلى أن مزقت جلودنا.
وقد علق بعض المؤمنين الآخرين بحبال رأسًا على عقب، وضربوا بوحشية ضارية مما جعل جسمهم يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال بسبب عنف الضربات، ووُضِعَ مؤمنون آخرون في صناديق للثلج وقد غشاها الجليد من الداخل، وقد وضعوني أنا أيضًا في إحداها بثياب رقيقة جدًا، وكان أطباء السجون يراقبون السجناء داخلها من خلال ثقوب صغيرة في جوانبها، وما أن لاحظوا مظاهر التجلد المميت علينا حتى نادوا الحراس لكي يخرجونا منها بسرعة ويدفئوننا مرة أخرى، حتى إذا ما نلنا قسطًا من الدفء أعادونا إليها ثانية لتجليدنا، وقد أعادوا الكرة مرارًا وتكرارًا... وهذا ما يجعلني أخشى اليوم أن أفتح ثلاجة الطعام.
وضعونا نحن المؤمنين في صناديق خشبية أكبر من حجمنا بشيء زهيد جدًا، مما لم يترك لنا مجالًا للحراك أبدًا، وقد دقوا في هذه الصناديق من كل جهاته عشرات المسامير تبلغ رؤوسها من الداخل حدة الموس. كان الأمر سهلًا إذا وقفنا بسكون تام، ولكنهم أرغمونا على الوقوف في هذه الصناديق لمدة عدة ساعات طويلة، وعندما شعرنا بالتعب والإعياء وألقينا جسمنا على جوانب الصندوق طلبًا للراحة غرزت هذه المسامير في أجسادنا... فما صنعه الشيوعيون بالمؤمنين يفوق وصف العقل البشرى وإدراكه. شاهدت الشيوعيين يعذبون المؤمنين وقد تألقت وجوههم بالبهجة، وكانوا يصرخون في وجوههم وهم يعذبونهم "نحن الأبالسة!". إننا لا نحارب مع لحم أو دم، بل مع الرياسات والسلاطين وقوات الشر الجهنمية(65)..
وإحدى الفتيات كانت توزع بعض البشائر وتعلم الأولاد عن المسيح سرًا، فقرروا اعتقالها، ولكنهم أجلوا الاعتقال إلى يوم زفافها، وفي يوم زفافها هرع البوليس السري إلى داخل بيتها فمدت يديها ليكبلوها بالقيود، وهي تقبل السلاسل وتقول "أشكر عريسي السماوي يسوع من أجل هذه الدرة التي قدمها لي في يوم زفافي. أشكره لأنه حسبني أهلًا أن أتألم من أجله، بينما الأهل يولولون والعريس يتحسر لوعة، فهم يعرفون أهوال سجن الإلحاد، وبعد خمس سنوات أفرج عنها وكأنها أكبر من سنها بثلاثين عامًا، وكان عريسها في انتظارها، وهي تقول له إن ذلك كان أقل ما يمكنها أن تفعله من أجل المسيح(66).
ويقول ريشار وورمبراند أنه أثناء التحقيق معه " استمر التعذيب والوحشية دون هوادة، وعندما فقدت وعيي وأصبحت كالثمل بحيث لم أستطع أن أقدم لمعذبي أية اعترافات، اقتادوني إلى غرفتي مرة ثانية. وهناك تركوني ملقى على الأرض دون عناية وشبه ميت، إلى أن استعدت بعض قواي ونشاطي ليعودوا إلى مرة أخرى للاستجواب. لقد قضى كثيرون نحبهم عند هذا الحد، ولكن قوتي عادت إلى بصورة غريبة، وفي الأعوام التي تلت، والتي قضيتها في سجون عديدة، كسروا أربع فقرات من عمودي الفقري وعظامًا أخرى كثيرة، وقد نقروا في جسمي اثنتي عشرة نقرة بالسكاكين وفتحوا فيه ثماني عشرة ثغرة آخرة كيًا بالنار... فقد ضربوني بوحشية ولكموني بقسوة ضارية! هانوني واستهزأوا بى! أجاعوني، ضغطوا على واستجوبوني(67) وبعد ثماني سنوات ونصف أفرجوا عنه سنة 1965م لمدة أسبوعين ألقى خلالها عظتين مثبقًا للمؤمنين حاملًا في جسده سمات الرب يسوع، ثم عادوا وقبضوا عليه ليقضى ثلاث سنوات أخرى في ظروف أصعب وأشد ضراوة، وبلغ إجمالي ما قضاه في سجن الإلحاد أربعة عشر عامًا. أما زوجته فقد قبض عليها وذاقت الأهوال حتى أكلت العشب كالثيران، وترك ابنه "ميهاى" بدون عائل، وكانت مساعدة عائلات الشهداء والمساجين تعتبر جريمة، فعندما قدمت سيدتان المعونة للصبي الصغير ميهاى تعرضتنا للضرب المبرح حتى أصيبنا بالشلل الدائم، وعندما استضافت سيدة أخرى ميهاى ضربت حتى تساقطت جميع أسنانها، وعندما اهتز إيمان الصبي ميهاي، وهو في سن الحادية عشر من عمره، وعمل كعامل صغير لكيما يجد لقمة العيش، وإذ سمح له بمقابله أمه من وراء القضبان الحديدية وظهرت في حالة يرثى لها نحيلة ومتسخة وهي ترتدي ملابس السجن البالية ويديها خشنتين من قسوة العمل، فتعرف عليها بصعوبة بالغة، وكانت أول كلماتها لابنها " آمن بيسوع يا ميهاى " ولم يسمح لها الحراس بأكثر من هذا، إذ جذبوها بوحشية وجروها بعيدًا عن ابنها الذي راح يبكى، ومن هذه اللحظة اشتد إيمانه بالله قائلًا " لنفرض أنه لا توجد للمسيحية أية حجج سوى تلك التي ملكتها أمي فهذا الأمر يكفيني(68).
وكانوا يعذبون المساجين بالجوع الشديد، فيقدمون لهم قطعة خبر كل أسبوع حتى صاروا أشبة بهياكل عظمية، وصاروا كالمعتوهين، حتى إن ريشار لم يقو على تلاوة الصلاة الربانية، فكانت صلاته عبارة عن كلمتين فقط هما " أحبك يا يسوع " والأمر المدهش أن هؤلاء المساجين كانوا يقدمون العشور من ضروراتهم... كيف
كان يتخلون عن قطعة الخبز الخاصة بهم في الأسبوع العاشر لمن هو أضعف منهم.
حقًا إن هؤلاء الأبطال لم يحبوا حياتهم حتى الموت، فالشاب "ماتشيفي" في سجن "تيرجو أوكتا" الذي كان له من العمر ثمانية عشر عامًا وقد أصيب بمرض السل بسبب التعذيب وصعوبة السجن، وعندما علمت أسرته أرسلت له العلاج، فأعلمه ضابط السجن وطلب منه مقابل تسليمه الدواء الذي سينقذ حياته أن يعطيه بعض المعلومات عن زملائه المؤمنين، فقال له تبرغوا أنني لا أريد أن أبقى حيًا فاستحى برؤية وجه خائن في مرآة. فأنا لا أستطيع أن أقبل هذا الشرط. أنني أفضل الموت على ذلك، ومات تبرعوا بطلًا شهيدًا.
وعندما تسلمت " كولموندة " جثة زوجها الذي قتل في السجن وترك لها أربعة أطفال صغار، لاحظت علامات الاصفاد التي كبلت يديه، والحروق التي لحقت بيداه وأصابعه والأقسام السفلى من رجليه، ووخز السكاكين على القسم الأسفل من معدته، وانتفاخ رجله اليمنى، وعلامات الضرب التي برزت على رجليه الاثنين، فقد كانت الجثة كلها مشوهة بسبب الضرب، وتجمع المؤمنون نحو 1500 شخصًا في مسيرة ضخمة لتوديعه وكل منهم يعلم أن نهايته ربما تكون هي نهاية هذا الشهيد، وأكثر من هذا أنهم حملوا لافتات كتب عليها " لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (في 1: 21).. " لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها" (مت 10: 28).. "رأيت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله" (رؤ 6: 9).
ويقول ريشار وورمبراند " والنساء المسيحيات يلاقين عذابًا يفوق عذاب الرجال في السجن، فقد اغتصبت الفتيات من حراس وحشيين، والسخرية، بالإضافة إلى المناظر القبيحة، لهو أمر مرعب، وقد أجبروا النساء على العمل الشاق في حفر القنوات، وكان عليهن أن يقمن بالعمل كالرجال... وقد أقاموا عليهن بعض المراقبات الساقطات الزانيات، فتسابقن في تعذيب المؤمنات، وقد أكلت زوجتي العشب كالثيران لتبقى حية. وكذلك أكل السجناء الجرذان والحيات عند حفر قناة ليبقوا أحياء، وكان من أبهج تسليات الحرس أيام الآحاد هي أن يلقوا النساء في نهر الدانوب ليخرجن من الماء مرة أخرى فيسخرون بهن بنظرهم إلى أجسامهن المبتلة. وقد أعادوا الكرة مرارًا وتكرارًا، وهكذا فعلوا بزوجتي أيضًا(69).
وأشارت الصحف الروسية في إحدى المرات إلى القبض على اثنين وثمانون مؤمنًا بالمسيح ووضعهم في مستشفى الأمراض العقلية، وتحت وطأة العذاب مات أربعة وعشرون منهم فأشارت الصحف الروسية أن هؤلاء ماتوا بسبب الصلوات الطويلة... فهل لنا أن نتصور ما عاناه هؤلاء الشهداء
!، وأشارت صحيفة "سوجتسكايس روسيا" في 4 يونيو 1963م إلى سيدة مؤمنة عدم ليس الطليعة الحمراء(70).
وكان القبض على مؤمن في بلاد الإلحاد يعنى تجويع أسرته فيقول ريشار وورمبراند "فما أن يعتقل أحد أعضاء الكنيسة السرية، حتى تلسع عائلته دراما مؤلمة، فيصبح إعانتها ممنوعة قانونيًا منعًا باتًا. هذا هو مخطط الشيوعيين المدروس لكي يضيفوا إلى آلام الزوجة المنكوبة وأولادها الذين تركهم الزوج خلفه، وعندما يساق المؤمن إلى السجن وغالبا إلى العذاب والموت لا تكون الآلام إل في طورها البدائي، أما عائلته فتتعذب إلى ما لا نهاية، وأقول لكم الحق أنه لولا المؤمنون العاديون في البلدان الحرة والذين أرسلوا لي ولعائلتي المعونات المتنوعة، ما أمكننا أن نعيش لنكون بينكم ونسجل هذه الأسطر!
هناك في هذا الوقت بالذات (1966م) موجة اعتقال شاملة ضد المؤمنين في روسيا وغيرها أيضًا في البلدان الشيوعية، ويتصاعد عدد الشهداء يومًا بعد آخر. ومع أنهم يمضون إلى قبورهم، وبالتالي إلى مكافأتهم السماوية، غير أن عائلاتهم تعيش في أحوال يرثى لها، فنحن نستطيع، بل ويجب علينا، أن نساعدهم...
عندما ضربوني على باطن قدمي صرخ لساني، ولماذا صرخ لساني
فهو لم يضرب! صرخت لأن اللسان والرجلين جزء لا يتجزأ من الجسم الكامل، وأنتم أيها المؤمنون الأحرار، أنتم جزء من ذات جسد المسيح الذي يتألم الآن في السجون الشيوعية، والذي يستشهد من أجل المسيح... لقد برزت إلى الوجود مرة أخرى الكنيسة الأولى بكل جمالها، تضحيتها، وتكريسها في البلدان الشيوعية... أخوتنا هناك، لوحدهم وبدون أية معونة، يخوضون أعظم معركة عرفها القرن العشرون، تضاهى في بطولتها الكنيسة الأولى وتكريسها(71).
وكان ثمن كرازة السجين لزملائه الضرب المبرح، وفرح الكارزون السجناء بالكرازة، وفرح الشيوعيون بضربهم، فكانت صفقة بين الطرفين، فأحد الأشخاص ضبطوه يكرز لزملائه فلم يدعوه يستكمل جملته، وحملوه إلى غرفة الضرب، ثم أعادوه مرضضًا داميًا، وما أن استعاد قدرته على الكلام حتى أكمل جملته وحديثه لزملائه الذي التفوا حوله، ورأوا فيه صلابة الإيمان بالمسيح.
وتحول المؤمنون الأحرار إلى كارزين في الخفاء " تعترف الصحف الشيوعية أن الجزارين يضعون النشرات المسيحية ضمن الأوراق التي يلفون بها للحوم المباعة (للمؤمنين) وكذلك تعترف الصحافة الروسية بأن المؤمنين العاملين في دور النشر الشيوعية، يعودون إلى مطابعهم في الليل لطبع ألوف النشرات المسيحية، ثم يغلقونها مرة أخرى قبل شروق الشمس، وتعترف الصحافة الروسية أيضًا أن بعض الأولاد قد حصلوا على أجزاء من الإنجيل... ووضعوها في جيوب معاطف أساتذتهم المعلقة في غرف المعاطف في المدرسة، فجميع أعضاء الكنيسة من رجال ونساء وأولادهم هم قوة إرسالية عظيمة، أشداء، نشيطون ورابحون للنفوس في كل بلد شيوعي(72).
وهكذا كانت الكنيسة قوية في هذه الظروف الرهيبة، فيقول ريشار وورمبراند "ومع أن الكنيسة السرية في البلاد الشيوعية فقيرة ومتألمة، ولكنها لا تضم أعضاء فاترين. وإن اجتماعًا دينيًا فيها لأشبه باجتماع في تاريخ الكنيسة في القرن الأول، فالواعظ لا يجيد العلوم اللاهوتية... الآيات الكتابية غير معروفة كما يجب في البلدان الشيوعية، لأنك قل ما تجد كتابًا مقدسًا فيها. أضف إلى هذا كلمة، فقد يكون الواعظ رجلًا قضى سنين عديدة في السجن بلا كتاب مقدس(73) وكانوا يصلون في الغابات المنعزلة "لقد استبدلت زقزقة الطيور الجميلة موسيقى الأرغن، وكان شذا الورود العطرة بخورًا لنا... وكانت شموعنًا متمثلة بالقمر والنجوم التي أضاءتها الملائكة. إنني أعجز عن وصف هذه الكنيسة وجمالها، وكم من مرة ألقى القبض على المؤمنين بعد اجتماع سرى وزجوا في السجن! وهنا يتقلد المؤمنون السلاسل الحديدية على أعناقهم بسرور كما تتقلد العروس حليها الجميلة والمقدمة لها من حبيبها. كما إنك تحصل في السجن على قبلات يسوع وعناقه، فلا تستبدل مكانك بقصور الملوك، والحق يقال فأنا لم أجد مؤمنين سعداء بالحق إلا في الكتاب المقدَّس وفي الكنيسة السرية وفي السجون الشيوعية(74).
وانتصر الإيمان بالمسيح على كل تحديات الشيطان، وكم نحن سعداء إذ أبصرنا صرح الشيوعية ينهار على يد ميخائيل جربتشوف، وعاد نور الإيمان يشع من جديد في كل بلاد الإلحاد.