ما هي نظرية فلهاوزن وكيف رتب المصادر الأربعة تاريخيًا



نظرية يوليوس فلهاوزن (1844 - 1918م):
ج- في سنة 1878م حدثت طفرة جديدة في تاريخ الدراسة النقدية، لأنه في هذا العام ظهر كتاب " فلهاوزن " J.Wellhausen " المقدمة النقدية لتاريخ إسرائيل " Prolegomena to the history og Israel " حيث وضع نظريته على أسس تاريخية أكثر من اعتماده على التحليل الأدبي، فحدد " فلهاوزن " تاريخ المصدر اليهودي J (بسنة 950 - 850 ق.م.) ، وقال أن الذي وضعه مؤلف يهودي من مملكة يهوذا بقصد تمجيد ملك داود وتعظيم مكانة القدس وكهنوت هارون وضرورة مركزية العبادة في أورشليم. وفيه يتكلم بهوه مع الناس مباشرة، فيهوه شخصية واضحة جدًا في هذا المصدر، وخلع المصدر الصفات البشرية على يهوه، فهو يأخذ صورة إنسان ويمشى ويتكلم مع الناس ويأكل معهم (تك 18: 8) كما تحدث هذا المصدر عن الآباء باستفاضة كما رأينا من قبل.

كما حدد فلهاوزن المصدر الأيلوهي E بسنة (850 - 750 ق.م) ، وقال أنه وضعه مؤلف ايلوهى أو أكثر من شخص في مملكة السامرة بقصد إظهار إمكانية العبادة في أي مكان (كما قالت المرأة السامرة للسيد المسيح آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه) وقال فلهاوزن أن المصدر الألوهيمي أظهر إيلوهيم الذي يتعامل مع الناس عن طريق الرؤى أو طريق الملائكة فقد استجاب لإيليا من خلال إرسال نار من السماء، ويلتمس المصدر الأعذار لضعفات الآباء.

وحدد " فلهاوزن " أيضًا المصدر التثنوي D بسنة 623 ق.م في عصر يوشيا الملك، وذلك للتشابه الكبير بين مصطلحات يوشيا وكلمات سفر التثنية (2 مل 23: 4-6، تث 12: 1-7) وأمر الملك حلقيا الكاهن العظيم وكهنة الفرقة الثانية وحراس الباب أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناد السماء وأحقها خارج أورشليم في حقول قدرون وحمل رمادها إلى بيت إيل. ولا شيء كهنة الأصنام الذين يوقدون للبعل للشمس والقمر والمنازل ولكل أجناد السماء. وأخرج السارية من بيت الرب خارج أورشليم إلى وادي قدرون وأحرقها في وادي قدرون ودفها إلى أن صارت غبارًا وذرى الغبار في قبور عامة الشعب (2 مل 23: 4-6).. هذه هي الفرائض والأحكام التي تحفظون لتعملوها في الأرض التي أعطاك الرب أبائك لتمتلكها كل الأيام التي تحيون على الأرض. تخربون جميع الأماكن من حيث عبدت الأمم التي ترثونها ألهتها على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء، وتهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتحرقون سواريهم بالنار وتقطعون تماثيل آلهتهم ونمحون أسمهم من ذلك المكان (تث 1: 1-3) ويظهر المصدر اهتمام الله بمحبة إسرائيل، وعودة بالبركة لمن يسلك بأمانة، والتهديد باللعنة للمخالف، وقال أنه أضيف إلى هذا المصدر أسفار يشوع والقضاة وصموئيل.

وحدد " فلهاوزن " المصدر الكهنوتي P بسنة (500 - 450 ق.م) وادعى أن ذبيحة الخطية والإثم التي ذكرها المصدر الكهنوتي لم يعرفهما الشعب لا أيام موسى ولا بعد موسى، إنما ظهرت الحاجة إليهما بعد الكوارث التي حلت بالشعب بعد سبى بابل (ورد على فلهاوزن فيما بعد ريتشارد فريدمان الذي قال أن المذنب يشعر بالذنب في أي لحظة من التاريخ، وفي سنة 722 ق.م. عندما سقطت مملكة إسرائيل كانت مدعاة للإحساس بالذنب، ولذلك اختلف فريدمان مع فلهاوزن في تحديد تاريخ المصدر الكهنوتي(1) وقال فلهاوزن أن المصدر الكهنوتى كتب بمعرفة حزقيال النبي خلال فترة السبي البابلي، وكان حزقيال كاهنًا من أبناء هارون، وقال فلهاوزن أن هناك تشابهًا كبيرًا بين المصدر الكهنوتي وبين ما جاء في سفر حزقيال، واهتمام المصدر الكهنوتي بأبناء هارون يتناغم مع ما جاء في رؤيا حزقيال بأن الكهنة أولاد صادوق ابن هارون هم فقط الذين سيخدمون في الهيكل " أما الكهنة اللاويون أبناء صادوق الذي حرسوا حراسة مقدسي حين ضل عنى بنو إسرائيل فهم يتقدمون إلى ليخدموني ويقفون أمامي ليقربوا لي الشحم والدم يقول السيد الرب. هم يدخلون مقدسي ويتقدمون إلى مائدتي ليخدموني ويحرسوا حراسي" (حز 44: 15، 16)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كما قال فلهاوزن إننا في المصدر الكهنوتي نجد الله الجليل المتباعد عن الإنسان، ومع هذا فإنه يخطط مجرى الأحداث ويهتم المصدر بتسلسل الأنساب وأصل الآباء والعبادة الطقسية، ويمثل هذا المصدر الجزء الأخير من سفر الخروج (25، 31، 35، 40) وسفر اللاويين بالكامل والجزء الأكبر من سفر العدد بالإضافة إلى ما ورد من عبارات طقسية في سفري القضاة وصموئيل الأول.

وادعى فلهاوزن أنه في سنة 400 ق.م أدمجت كل هذه المصادر السابقة، غالبًا تحت رعاية عزرا الكاتب، لكي تأخذ شكل التوراة الحالية، وربط فلهاوزن بين المصادر الأربعة وتاريخ إسرائيل الديني بشكل يبدو مقنعًا، حتى أستحوذ على فكر علماء العهد القديم في الغرب لمدة طويلة ويمتدح ريتشارد فريدمان اليوت عزرا الكاتب لأنه جمع المصادر بهذه الكفاءة في كتاب واحد فيقول "حَظِيَ عزرا، دون الآخرين الذين أسهموا في كتابة أسفار التوراة الخمسة، بمجد أكثر منهم. إن التقدير يحصل عليه المؤلفون للقصص والتشريعات بشكل عام وليس محررها، لكن هذا لا ينطبق على حالتنا هذه، فقد كان المحرر هنا فنان في عمله مثل مؤلف المصادر وكان إسهامه لا يقل عن إسهامهم، وكان دوره إنتاجي أيضًا فكان الأمر يتطلب منه الحكمة في كل خطوة يخطوها وإحساسًا أدبيًا وموهبة فنية لا تقل عن موهبة كتابة القصص، وفي النهاية ذلك هو المحرر الذي أخرج المؤلف الذي تقرأه منذ آلاف السنين، فقد وضع الصورة النهائية للقصص والتشريعات التي أثرت بشكل كبير على الملايين في أنحاء العالم(2).

وقد كتب فلهاوزن مقالة "إسرائيل" في الموسوعة البريطانية، كما كتب "الأسفار الستة" في الموسوعة الكتابية وبعد أن كان فلهاوزن يعمل في التدريس الديني في "جريفسفيلد" قدم استقالته لأنه شعر أن آراءه هذه تؤثر على طلبته الذين تعدهم الكلية للقيام بأعمال الرعاية والتبشير، وجاء في استقالة " لقد اخترت أن أكون عالمًا للاهوت لأنني اهتممت بالرؤية العلمية للعهد القديم، واتضح لي تدريجيًا أنه على أستاذ علم اللاهوت أن يعد تلاميذه لخدمة الكنيسة التبشيرية، وعلى ما يبدو أنني لا أقوم بهذا العمل كما ينبغي لكن على العكس، وعلى الرغم من تحفظاتي إلا أنني أضعف من قدرة تلاميذي كي يستحقوا وظيفتهم"(3)(4).

ويعتبر فلهاوزن مع جراف أكثر من أسهما في تثبيت نظرية المصادر الأربعة التي سادت لوقت طويل، وما يزال بعض النقاد في العصر الحديث يتمسكون بها.

ومع هذا فإنه بازدياد الدراسة والمعرفة أتضح ما في نظرية فلهاوزن من نقاط الضعف، فردًا على التشابه بين سفري أرميا وحزقيال مع التوراة يليق بنا أن نذكر أن كل من النبيين قد اقتبس من التوراة التي كتبت قبل ولادته بمئات السنين، فمثلًا ما جاء في سفر أرميا " نظرت إلى الأرض وإذ هي خربة وخالية وإلى السموات فلا نور لها" (أر 4: 23) مقتبسة من (تك 1: 1-3) وقوله " ويكون أن تكثرون وتثمرون في الأرض في تلك الأيام يقول الرب أنهم لا يقولون بعد تابوت عهد الرب ولا يخطر على بال ولا يذكرونه ولا يتعهدونه ولا يصنع بعد" (أر 3: 16) فعبارة " تكثرون وتثمرون "مقتبسة من (تك 1: 22، 28، 17: 20، 28، 3،47: 27، 48: 4) وقوله عن "تابوت العهد "مقتبس من (خر 25: 10-22) وقول حزقيال النبي "لأجل ذلك هكذا قال السيد الرب. من أجل أنكم ضججتم أكثر من الأمم التي حواليكم ولم تسلكوا في فرائضي، ولم تعملوا حسب أحكامي" (حز 5: 7) مقتبس من " إذا سلكتم في فرائضي وحفظتم وصاياي وعملتم بها.." (لا 25: 3) وقول حزقيال النبي " وإذا أرسلت عليكم الجوع والوحوش الرديئة فتئكلك.." (حز 5: 27) مقتبس من اللاويين " أطلق عليكم وحوش البرية فتعدمكم الأولاد وتقرض بهائمكم" (لا 26: 22) وقوله أيضًا " لما أتيت بهم إلى الأرض التي رفعت لهم يدي لأعطيهم إياها.." (حز 20: 28) مقتبس من سفر الخروج " وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحق ويعقوب. وأعطيكم إياها ميراثًا، أنا الرب" (خر 6: 8) بل ويعترف ريتشارد فريدمان الذي يذكر نسبة التوراة لموسى النبي فيقول " يبدو أن المصدر الذي أعتمد عليه حزقيال في قصة الخروج من مصر هو المصدر الكهنوتي لكن حدد الباحثون منذ ريوس وجراف وفلهاوزن أن المصدر الكهنوتي قد كتب بعد حزقيال... ومن المنطقي أكثر أن النبي اقتبس من التوراة وليس العكس، ومن الطبيعي أن يقتبس حزقيال من التوراة، وأن ترتكز القصة الجديدة مع القصة الأصلية وليس العكس... إني أؤمن بأن الأساليب الجديدة في التحليل اللغوي تضع اليوم نهاية للجدال في هذا الموضوع، ففي عام 1982م أوضح البروفسور "أفي هوربيتس " من الجامعة العبرية بالقدس أن المصدر الكهنوتي قد تمت كتابته في مرحلة سابقة جدًا لحزقيال"(5)

كما قال ريتشارد أيضًا "إضافة إلى رؤية "هوربيتس " اكتشف خمسة من الباحثين في السنوات الأخيرة، اثنان من كندا وثلاثة من الولايات المتحدة شواهد لغوية تثبت أن معظم المصدر الكهنوتي قد كتب بعبرية العهد القديم الخاصة بالأيام التي سبقت سبى بابل"(6)(7)

وأكد ريتشارد فريدمان على هذا قائلًا "إن إدعاء ريوس بأن شريعة المصدر الكهنوتي قد جاءت بعد الأنبياء هو ببساطة إدعاء خاطئ"(8).

وقد ظلت فكرة تعدد المصادر التي اعتمد عليها موسى في كتابة التوراة في اضطراد حتى وصلت إلى ستة مصادر هي:

النسخة اليهوية Yahwistic ويُرْمَز لها بالحرف J.

النسخة الألوهيمية Ehohist ويُرْمَز لها بالحرف E.

النسخة الكهنوتية Priestly3ويُرْمَز لها بالحرف P.

النسخة التثنوية Deuteronomy4ويُرْمَز لها بالحرف D.

النسخة السامرية Holines وهي نتاج النسختين اليهوية والأيلوهية ويُرمز لها بالحرفين ويُرْمَز لها بالحرف JE.

النسخة القدسية Yahwistic ويُرْمَز لها بالحرف H.

وعندما مزجت هذه النسخ جمِيعها ظهرت بصورتها الحالية(9)(10).

ووصل تشريح الكتاب المقدَّس بسبب نظرية المصادر إلى حد اللامعقول، فمثلًا كان من الممكن أن ينسبوا أية واحدة إلى مصدرين أو أكثر إذا اعتقدوا أن كل جزء من الآية له خواصه اللاهوتية واللغوية المختلفة من الجزء الآخر، وأحيانًا يشطرون القصة الواحدة الفريدة ويعيدون تركَيبها من جديد، وإذا وجدوا قصتين متشابهتين في مكانين مختلفين قالوا إن القصة واحدة ولكن المصدر مختلف. كما إن آراء هؤلاء النقاد قد تباينت واختلفت، فالجزء أو القسم الذي كان ينسبه البعض إلى مصدر معين، كان ينسبه الآخرون إلى مصادر أخرى، وهذا ما فضح مزاعمهم الفاسدة.

وتمادت مدرسة النقد الأعلى في أفكارها الهدامة، فاعتبرت الكتاب المقدَّس عبارة عن مجموعة أساطير بالإضافة إلى بعض الأجزاء التاريخية التي أعيد صياغتها بواسطة كتَّاب آخرين، طبقًا للاعتبارات السياسية والعقائد الدينية السائدة في عصرهم، ولنا عودة في هذا الموضوع.