من هم النقاد الذين تخيلوا أن هناك مصدرًا كهنوتيًا للتوراة وما هي خصائص هذا المصدر بحسب تصورهم


المصدر الكهنوتي Priestly Document (P):
ج- ألقى " إدوارد ريوس " E. Reuss في سنة 1833م محاضرة في ستراوسبرج عن المصدر الكهنوتي، وقال إن هذا المصدر ظهر بعد توقف ظهور الأنبياء، ولكنه ظل لمدة 46 عامًا لا يجرؤ أن يعلن رأيه هذا كتابة، وفي سنة 1879م كتب ريوس بحثًا مطولًا يثبت فيه الفترة التي كتب فيها المصدر الكهنوتي، وكان قد سبقه في هذا تلميذه " كارل جراف " الذي تبنى رأى أستاذه ريوس وأضاف إليه أبحاثه الخاصة، وحدد فترة كتابة هذا المصدر خلال الفترة من العودة من السبي وحتى بناء الهيكل الثاني، وعندما سئل لو كان هذا المصدر كتب في هذه الفترة فكيف لا يشير للهيكل ولا أشار حتى إلى أمر يهوه لموسى ببناء الهيكل، فادعى جرافيك أن التوراة كثيرًا ما تكلمت عن الهيكل ولكن ليس باسمه ولكن باسم "المسكن" وادعى أن المقصود بالمسكن هو الهيكل، وصارت فكرة المسكن أنه الهيكل حجر الزاوية في نظرية جراف، وإدعى جراف أن المسكن لم يكن له وجود أيام موسى النبي، ولكن كاتب المصدر الكهنوتي أراد أن يسبغ على المسكن أو الهيكل صفة القدم والأصالة، لذلك تكلم عنه وكأنه موجود منذ أيام موسى، وأخذ فلهاوزن برأى جراف وأستاذه ريوس... والحقيقة التي لا تستطيع أحد أن يتغافلها أن هناك فرقًا بين المسكن وبين الهيكل، فالمسكن كان ضمن خيمة الاجتماع التي صنعها موسى بحسب المثال الذي أظهر له على الجبل، أما الهيكل الأول فبناه سليمان الملك، ورممه بعد السبي زربابل بأمر الملك كورش، وفي المسكن الأول كان هناك تابوت العهد أما في الهيكل الثاني فلم يذكر الكتاب تابوت العهد كان في الهيكل الثاني، فبعد أحدًا السبي اختفى الكلام عن تابوت العهد، وجاء في سفر المكابيين أن أرميا أخفى تابوت العهد خوفًا عليه (2 مك 25: 4، 7).

وافترض فلهاوزن وجراف أن المصدر الكهنوتي هو أكبر المصادر ويساوى تقريبًا المصادر الثلاث الأخرى اليهودي والألوهيمي والتثنوي، وضم قصص الخلق، والطوفان وإبراهيم، ويعقوب، والخروج من مصر، ورحلات بني إسرائيل، والتشريعات التي تصل إلى ثلاثين إصحاحًا من أسفار الخروج والعدد وكل سفر اللاويين(1).

وتساءل ريتشارد فريدمان عن الأسباب التي دعت كاتب المصدر الكهنوتي للكتابة، وقال لا، هذا الكاتب شعر بأن المصدر اليهوي والألوهيمي قد حط من قدر هرون الأب الروحي للمؤلف الكهنوتي، وإن المصدر اليهوي الألوهيمي لم يولى التشريعات الاهتمام الكافي، ولم يعط الاهتمام الكافي لعمل الكهنوت، وحدد فريدمان زمن كتابة المصدر الكهنوتي ما بين سنة 722 ق.م، 609 ق.م (2)، كما يرى فريدمان أن القصص التي أوردها المصدر الكهنوتي خالية من الملائكة والحيوانات الناطقة (الشيطان) والأحلام ورؤى الأنبياء، فالمعاملة مع الله تتم عن طريق الذبائح، وعندما خالف أبناء هرون الطقس وقدما نارًا غربية أمام الرب وبخورًا ماتا (لا 10: 1، 2) فلا تظهر رحمة الله ولا حذوه ولا مغفرته، فلمن يخطئ عليه أن يعلن ندمه أمام الكاهن وإلا تعرض للعقوبة الشديدة، ونبدأ قصة الخلق في هذا المصدر بخلقة السموات "في البدء خلق الله السموات والأرض" (تك 1: 1)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولا يضفى هذا المصدر الصفات البشرية على الإله كما نجدها في المصدر اليهوي الألوهيمي، حيث نرى الله يسير في جنة عدن، ويجهز ملابس لآدم وحواء، ويغلق السفينة على نوح ومن معه، ويشتم رائحة الذبائح، ويصارع يعقوب، ويتحدث إلى موسى من خلال العليقة المشتعلة وتظهر رحمة الله وحنوه فهو " إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية" (خر 34: 6،7) وتبدأ قصة الخلق بخلقة الأرض " يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات" (تك 7: 4)(3).

ويقول الأب أنطون نجيب عن هذا المصدر " وقد كان أول مصدر نعرف عليه العلماء، بفضل وضوح معالمه وجلاء خصائصه، وقد أطلق العلماء في البداية على هذا المصدر اسم المصدر الإيلوهي لأنه يدعو الله تعالى باسم " إيلوهيم " وعندما تحققوا من أن الأجزاء التي تستعمل اسم إيلوهيم تنتمي إلى مصدرين مختلفين، دعوا أحدهما المصدر الإيلوهي الأول، والآخر المصدر الإيلوهي الثاني، وأخيرًا اتفقوا على تسمية الأول المصدر الإيلوهي والثاني باسم المصدر الكهنوتي(4).

ومن أهم خصائص هذا المصدر الكهنوتي بحسب تصور أصحاب مدرسة النقد الأعلى ما يلي:

1- الخصائص الأدبية: يستخدم المصدر الكهنوتي كلمات معينة لا يستخدمها مصدر غيره، مثل كلمة "المسكن" التي استخدمها أكثر من مائة مرة، وكلمة " عيدات " التي تدل على جماعة الشعب استخدمها 120 مرة، واستخدم عبارة " أبناء إسرائيل " بدلًا من إسرائيل، وفدان آرام موطن إبراهيم بدلًا من أرض الكلدانيين، و"قرية أربع" بدلًا من حبرون، وبعض الكلمات في المصدر الكهنوتي لها تحديد معين، فكلمة " قربان " في المصدر الكهنوتي تشير إلى تقدمة المؤمن للهيكل، و" تغطية " كيير أي تغطية الخطايا وتشير إلى طقوس التكفير، ويقولون عن الأسلوب الأدبي لهذا المصدر " وأسلوب المصدر الكهنوتي جاف، يخلو من النضارة والحيوية، فمن جهة نجده وجيزًا جدًا في رواية الأحداث، ومن جهة أخرى يفيض بالتفاصيل الدقيقة، والشروحات، والمعلومات التاريخية، ويكثر من الإحصاء، ويعطى تعدادًا تفصيليًا للأسباط، والرؤساء، وأساس السيادة إلى درجة تسبب الضيق والملل للقارئ المعاصر(5).

كما يقولون أن مؤلف هذا المصدر استخدم قوائم المواليد " وقد استطاع بهذا الأسلوب البارع أن يعطى موجزًا للتاريخ المقدس، من آدم إلى موسى النبي(6).



2- الخصائص التاريخية: اهتم المؤلف بتاريخ الآباء منذ الرواية الثانية للخلقة وخلال نوح والآباء البطاركة وحتى موسى النبي، وقسم التاريخ إلى أربع حقبات الأولى عصر الخلقة والثانية عصر نوح والثالث عصر إبراهيم والرابعة عصر موسى، وإن الله أقام عهدًا إلهيًا في كل حقبة من حقبات التاريخ الأربعة، وتبدأ الحقبة الثانية بكارثة الطوفان التي أنهت حياة الخطاة وتجديد الأرض، ولم ينج سوى المعبد القائم الذي حوى داخله نوح وأسرته والحيوانات والطيور، وبعد إنتهاء الطوفان أعطى الله عهده لنوح وهو قوس قزح، وكان هذا العهد عالميًا وشاملًا يمتد إلى جميع البشر وإلى كافة الشعوب والأمم، ويعلن الله ذاته إنه هو إله جميع البشر.

وفي الحقبة الثالثة يختار الله إبراهيم، ويقيم العهد الإلهي معه كأب للشعب المختار، وعلامة العهد هي الختان، وفي الحقبة الرابعة يروى المؤلف الكهنوتي قصة الفصح والخروج من أرض مصر ويعطى مكانة ممتازة لهرون جد كهنة أورشليم، وإن " هرون هو الذي تفاوض مع فرعون، وألقى العصا أمام السحرة فتحولت إلى ثعبان (خر 7: 1-13) كما نجده يشترك مع موسى في إنزال الضربات على مصر(7) فعلامة العهد هي عصا هرون التي تمثل عائلة لاوي المسئولة عن خدمة المعبد والعبادة (عد 17: 23).



3- الخصائص الدينية: يذكر مؤلف المصدر الكهنوتي اسم " الله " أكثر من 350 مرة في سفر اللاويين ويدقق المؤلف على سمو الله فيقول الآب أنطون نجيب في معرض حديثه عن هذا المصدر " يرفض تطبيق الأوصاف البشرية على أعمال الله وعلى تدابيره وتصرفاته. وبعكس المصدرين اليهوي والإيلوهي، تخلو الإعلانات الإلهية من الظهورات الإلهية بطريقة حسبة وسط عناصر الطبيعة، أو بطريقة باطنية في الرؤى والأحلام، وتتم إعلانات الرب وأعماله كلها بواسطة كلمته القديرة وحدها. فهي التي تعلن رغباته وتحقق إرادته، ويكفى أن يصدر الأمر الإلهي، لتنبعث الكائنات إلى الوجود(8).

ولذلك عندما يذكر تغيير اسم يعقوب إلى إسرائيل حين عودته من فدان آرام (تك35: 9-19) لا يذكر قصة صراع الله معه، ويقولون أن الله في كل حقبة من التاريخ يعلن عن اسم جديد له، ففي بدء الخليقة كان اسمه المعروف "إيلوهيم" وهو اسم ينطبق على جميع الآلهة، وفي عصر إبراهيم أعلن عن اسمه "إيل شداي" "الإله القدير" (تك 17: 1) وفي عصر موسى أعلن عن اسمه الخاص "يهوه" إله شعب العهد.