لماذا تكلّم يسوع بالأمثال
تكلَّم يسوع على ملكوت الله بالأمثال.
إن هذا الأسلوب الذي اتبّعه لفت انتباه التلاميذ فسألوه:
لماذا تكلّم الجموع بالأمثال
(متى13/10).
قبل أن أقدّم لكم جواب يسوع عن هذا السؤال أقول لكم إنه ليس من الغريب أن يتكلَّم يسوع بالأمثال.
إن التكُّم بالامثال طريقة تعبيرية تبنَّتها عدة شعوب في العاَلميْن القديم والحديث.
فالشعب اليوناني القديم كانت له أمثاله،وقد كتبها الفيلسوف الشعبي إيسوب.
والشعوب الهندية كانت لها أمثالها، وقد تُرجمت إلى اللغة العربية، وكتبها لنا ابن المقفع بلغة سهلة
سَلِسة في كتابه الشهير "كليلة ودمنة"
ولدى الشعب الفرنسي أمثال "لافونتين" وقد نَقَلَ بعضَها إلى اللغة العربية بعضُ شعراء العرب المحدَثين، وترجمها كلّها بلغة الشعر الأديبُ المعروف الأب نقولا أبو هنا المخلِّصي.
إنّ هذه الأمثال قد جرت على ألسِنة الحيوانات، وقد نَسَبَ كتَّابُها إلى الحيوانات صفات الناس وعيوبهم.
فالكلب أمين، والثعلب خبيث خدّاع، والذئب شرس الطباع، والأسدُ ملك مستبد بالشعب
والشعب العِبْري أيضا كانت له أمثاُله
ومن أشهرها المثل الذي ضربه ناثان النبي لداود الملك الذي قتلَ أُوريّا الحِثّي أحدَ جنوده واتّخذ لنفسه امرأته الجميلة بتشابع
(سفر الملوك الثاني 11/2-27و12/1-15).
بالامثال واتّبع علماء اليهود طريقة عرض تعاليمهم القصصية، ومن أشهرهم العلماء الثلاثة هيلاّل وشمعي وغماليئيل.
وكان هذا الأخير أستاذ بولس قبل أن يهتدي.
أمَّا كتب الحكمة والأمثال والجامعة المنسوبة إلى سليمان الملك وأمثال يشوع بن سيراخ فهي حكم تربويَّة فقط، لا أمثال قصصية.
ولم يَحِدْ يسوع عن الخط الذي سار عليه علماء شعبه
فعلَّم هو الآخر بالامثال ذات المعاني الدينية السامية، كما رأينا في الحديث الأول
لماذا تكلم يسوع بالامثال
تكلَّم يسوع بالامثال لأن التكلُّم بها طريقة تعليمية وتربوية ممتازة تتفَّوق في بعض الأحيان على الكلام الصريح
ذلك لأن للأمثال جاذبية خاصة تستأثر بها انتباه السامعين، وتقرّب إليهم فهم الأمور حتى المعقّدة والمُستعصية منها.
إن هذا الجواب العام لا يكفي وحده للردِّ على السؤال الذي طرحه التلاميذ على المعلم الإلهي، لأنّ يسوع كان يتوخَّى في ضرب أمثاله إصابةَ أهدافٍ ثلاثةٍ محددة، لا هدفٍ واحد.
وإذا أردنا معرفة هذه الأهداف الثلاثة فلابدَّ لنا من أن نعود إلى البحث عن هدف كل نوع من أنواع الأمثال الثلاثة
العقائدية والأخلاقية والنبويّة التي ضربها يسوع
تارةً للشعب عامةً، وتارةً أُخرى لرؤساء الشعب خاصة، وهم الكتبة والفريسيون وعلماء الشريعة.
وإليكم الحديث عن كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة لنطّلع على الأهداف التي أراد يسوع إصابتها عندما كان يتحدَّث بالامثال عن ملكوت الله.
1- الأمثال العقائدية
ضرب يسوع الأمثال العقائدية ليحمل السامعين له من أبناء الشعب على التفكير والتأمل واكتشاف الفكرة العقائدية التي يحويها المثل، لا ليشعروا، بعد بذل الجهد الشخصي، بلذّة الاكتشاف العقلية فحسب، بل لترسخ الفكرةُ العقائدية المكتشَفة في نفوسهم وتكون في نهاية الأمر موضوع إيمانهم.
لقد ضرب يسوع مثل "الزارع" ليفسح لهم المجال لأن يفكروا في معناه، ويتأملوا فيه، ويطرحوا على ذواتهم الأسئلة التالية:
مَنْ هو الزارع
وما هي الأرض التي سقط فيها الحبّ
ولماذا بعضُ الحبّ أثمر
وبعضه لم يثمر
ولماذا تفاوتت كمية الحبّ الذي أثمر، فكانت قليلة في بعض الأرض وغزيرة في بعضها الآخر
إنَّ الأَجوبة عن هذه الأسئلة لا تُنشِّط الفكر وتنشئ فيه المسرَّة العقلية فقط، بل تُثبِّت الإيمان وترسخّه في قلب السامع المفكّر الذي اكتشف أن الزارع هو يسوع نفسه
وأن الزرع هو كلام الله
وأن الأرض التي وقع فيها الحبّ هي قلبه. فيرجع إلى نفسه ويقول:
لابدّ من أن أفتح قلبي لكلام الله ليتوطّد فيه هذا الكلام، وأحيا حياةَ الإيمان بيسوع الذي نقل إليَّ كلام الله.
2- الأمثال الأخلاقية
ضرب يسوع الأمثال الأَخلاقية ليُبرزَ جمالَ الفضيلة، ويجعلها تؤثر في قلوب السامعين، ويبّين لهم قباحة الرذيلة، فيمارسون الفضيلة وينفرون من الرذيلة.
لمَّا ضرب يسوع مثل السامري الرحيم أظهر لهم جمال ممارسة فضيلة المحبة التي حملت السامري هذا الرجل الغريب، بل العدو، على تقديم المساعدة لعدوّه اليهودي الجريح، كما أوضح لهم قباحة اللامبالاة بالإنسان المتألم التي استسلم إليها الكاهن واللاوي اليهوديّان اللذان مرّا بجريح من أبناء دينهما وقوميتهما، وأكملا طريقهما من دون أن يقدِّما له المساعدة التي كان بأشد الحاجة إليها.
إن هذا المثل الخُلُقي بيَّن للسامعين، بطريقة جلية، أنّ المحبة جميلة ورائعة لأنها تبدّد الحزازات وتزيل العداوات الدينية والقومية بين الناس، وتجعلهم يتساندون في أوقات المحن والشدائد، كما علَّمهم كيف يمارسون المحبّة لإخوتهم البشر، بطريقة عملية ومناسبة، وإلى أيّ حدّ ينبغي أن يمارسوها. فالمثل يطبع في القلب حُبَّ الفضيلة حُباً لا يُمحى، وكراهية الرذيلة مدى الحياة.
ويمكننا تطبيق هذا الهدف على جميع الفضائل المذكورة، أو المُشار إليها في الأمثال الخلقيّة
3- الأمثال النَبَوية
ضرب يسوع الأمثال النبوية ليحملَ الناس ولا سيَّما رؤساء الشعب، وهم الكتبة والفريسيون وعلماء الناموس، على التوبة والقيام بالأعمال الصالحة والإيمان بالمسيح الموعود.
إن بناء المثل النَبَوي يختلف كلّياً عن بناء المثل العقائدي والمثل الخلقي.
إنَّ مَثَل "التينة المورقة"
(متى21/18-22)
وهو من الأمثال النبوية، يوضّح لنا هذه الفكرة.
فيما كان يسوع نازلاً من جبل الزيتون في صباح أحد الأيام، شعر بالجوع، فرأى على الطريق شجرة تين عليها ورق غزير، فدنا منها ليقطف منها بعض التين يسدّ به جوعه. فلم يجد عليها ولا ثمرة؛ فَلَعَنها.
وعلى الفور اصفرَّت أوراقها الخضراء ويبست،
(إن هذا المثل واقعي وحياتي وليس مثلاً قصصياً)
لاحظوا أنّ هذا المثل مكوَّن من شِقّيْن:
الشِقَّ الأول هو وضع شجرة التين التاعس:
إنها خالية من الثمر.
والشِقَّ الثاني هو العقاب الذي حلَّ بها:
إِنها نالت اللعنة ويبست.
إن مثل التينة المورقة النَبَوي هو نموذج لسائر الأمثال النَبَوية.
لقد بنى يسوع كُلاً منها من شِقّيْن
فبالشِقّ الأول وصف وضع الرؤساء الديني التاعس والمتدنيّ
وبالشِقَّ الثاني أنذرهم بالعقاب الرهيب الذي سوف يحلّ بهم إذا لم يتوبوا، ولم يقوموا بالأعمال الصالحة، ولم يؤمنوا بالمسيح الموعود.
إذا تأمّلْنا في الأمثال النَبَوية نجد أنّ يسوع وَصَفَ في الشِقّ الأول منها الرؤساء بأنهم يتمسَّكون بالخطيئة، ويعصون أوامر الله، ويرفضون الإيمان بالمسيح، ويخونون الأَمانة التي سلّمهم الله إياها.
وأيدَّ وصْفه هذا بنبوءة أشعيا النبي الذي قال عنهم إنهّم عميان وصُمّ، عديمو الفهم، غليظو القلوب، يرفضون العودة إلى الله لينالوا منه شفاء أمراضهم الروحية.
قال لهم أشعيا بنبوءته:
"تسمعون سماعاً ولا تفهمون، وتنظرون نظراً ولا تُبصِرون، فقد غَلُظ قلبُ هذا الشعب، وأصمّوا آذانهم، وأغمضوا عيونهم لئلا يُبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم".
(متى13/14-16).
وفي الشِقّ الثاني من أمثاله النَبَوية انتقل إلى الإنذار بالعقاب الرهيب الذي سيحلّ بهم إذا لم يصلحوا أنفسهم ولم يؤمنوا:
إنه دمار مدينتهم وهيكلهم، وزوال وجودهم، وموتهم الروحي،وإغلاق باب السعادة الأبدية في وجوههم.
(لوكان لدينا الوقت لدرسنا الأمثال النَبَوية بالتفصيل واطّلعنا على الوصف والعقاب).
ترَوْن أن يسوع لمّا ضرب أمثاله العقائدية والأخلاقية والنَبَوية أصاب أهدافه الثلاثة بمهارة تعليميّة وتربويّة فائقة. فقد فتح لنا المجال بالامثال العقائدية للتفكير والتأمل فيها ليثُبِّتَ إيماننا به ويَتوطّد.
وزيّن لنا بالامثال الأخلاقية طبيعة الفضائل المسيحية الكبرى، ولا سيما المحبة، ليدفعنا إلى ممارستها باستمرار، ونبذِ الرذائل القبيحة التي تشوِّه أخلاقنا.
وحَمَلَنا، بالامثال النَبَوية، على التوبة والقيام بالأعمال الصالحة والإيمان بالمسيح الموعود، لنحيا معه حياة روحية مستنيرة بأنوار النعمة، لا تكتنفها ظلمة الخطيئة والشرّ والعمى الروحي.