تفسير إنجيل لوقا 17 الإيمان والصداقة الإلهية


شرح الكتاب المقدس - العهد الجديد - القمص تادرس يعقوب ملطي



جاء السيد المسيح يبحث عنّا كراعٍ يطلب خروفه الضال ليحتضنه، ويرتفع به إلى سماواته، وكأب يطلب ابنه الضال ليُقيم له وليمة مفرحة، ويسأل عروسه الكنيسة أن تجدّ في البحث عنّا كدرهمٍ مفقودٍ حتى تجدنا وتغسلنا بدمه فنحمل صورته الإلهية (ص 15). ومن جانبنا كما رأينا في الأصحاح السابق يلزمنا لكي نقبل هذه الصداقة أن نسلك بحكمة طالبين ما هو لبنياننا في الحياة الأبدية، لا اللذة الوقتية (مثل الوكيل الظالم)، محتملين الآلام بشكر كلعازر المسكين غير ممتثلين بالغني في انغماسه بالملذات وقساوة قلبه على أخيه. الآن يقدم لنا العنصر الأساسي لهذه الصداقة وهو الإيمان، مترجمًا عمليًا في حياتنا خلال الحياة الواقعية السلوكية، والواقع الداخلي في النفس وترقب مجيء الرب.

1. تجنب العثرات في سلوكنا 1-2.

2. اتساع القلب للمخطئين إلينا3-4.

3. زد إيماننا5-10.

4. الشكر والإيمان (العشرة برّص)11-19.

5. الإيمان بالملكوت الداخلي 20-21.

6. بين الملكوت الداخلي والأخروي 22-37.

1.تجنب العثرات في سلوكنا

تقوم صداقتنا مع السيد المسيح على الشركة الخفية داخل القلب، خلالها ننعم بالحياة الجديدة بروحه القدوس. هذه الشركة تتجلى عمليًا في سلوكنا الواقعي، خاصة في تجنب العثرات باتساع القلب بالحب، خاصة للمخطئين. فنعلن عن مسيحنا محب البشر الذي أحبنا ونحن بعد أعداء وصالحنا مع أبيه (رو 5: 10)، بحبنا حتى للمقاومين لنا. أما بالنسبة لتجنب العثرة، فيقول الإنجيلي:

"وقال لتلاميذه لا يمكن إلاّ أن تأتي العثرات،

ولكن ويل للذي تأتي بواسطته.

خير له لو طوق عنقه بحجر رحى، وطُرح في البحر،

من أن يعثر أحد هؤلاء الصغار" [1-2].

يؤكد السيد المسيح أن العثرة قائمة، ولكن تأكيده لا يعفي المعثرين من الدينونة أو المسئولية، إذ لا يلزم أحدًا أن يكون عثرة، إنما هو طبيب يشَّخص المرض، فيرى في البشرية من رفض منهم الطعام تمامًا برفضه الإيمان به، فينحدر إلى الهلاك ويكون عثرة للآخرين.

جاء هذا الحديث بعد أن كشف السيد المسيح عن عثرة المال، الذي عبده الفريسيون في قلوبهم الداخلية، فحملوا إلهًا غير الله، وصاروا عثرة في طريق الخلاص. وكأن السيد المسيح إذ عالج في الأصحاح السابق موضوع "محبة المال"، سأل تلاميذه أن يحترزوا من هذا الإله المعّثر للنفس، لئلا يصيروا كالفريسيين عثرة للشعب.

v ما هي العثرات التي يشير إليها المسيح التي لابد أن تحدث يوجد نوعان من العثرات: عثرات ضد مجد الكائن الأعظم، تقاوم جوهره ذاك الذي هو فوق الكل... أما العثرات الأخرى فتحدث من حين إلى آخر ضد أنفسنا، كل ما تجلبه هو ضرر الإخوة شركائنا في الإيمان.

الهرطقات التي تظهر، والبدع التي تقاوم الحق، في الحقيقة هي عثرات تقاوم مجد اللاهوت الأسمى، إذ تسحب الذين اصطادهم (الله) لتفسد استقامة تعاليمهم المقدسة الدقيقة. عن مثل هذه العثرات يقول المخلص نفسه: "ويل للعالم من العثرات" (مت 18: 7)، فلابد أن تأتي العثرات، ولكن ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة. مثل هذه العثرات التي يبثها الهراطقة الأشرار لا توجه ضد فردٍ معينٍ، إنما يقصد بها العالم، أي سكان الأرض كلها. ينتهر الطوباوي بولس مثيري هذه العثرات، قائلًا: "هكذا إذ تخطئون إلى الإخوة، وتجرحون ضميرهم الضعيف، تخطئون إلى المسيح" (1 كو 8: 12). ولكي لا تتغلب مثل هذه العثرات على المؤمنين يقول الله لسفراء كلمة الحق المستقيمة والمهرة في تعليمها: "اعبروا أبوابي، هيئوا طريق شعبي، أعدوا السبيل، نقوه من الحجارة" (إش 62: 10 الترجمة السبعينية). وقد وضع المخلص عقوبة مُرة على الذين يضعون مثل هذه العثرات في طريق الناس[722].

القديس كيرلس الكبير

إن كان السيد المسيح يؤكد لنا: "لا يمكن إلاّ أن تأتي العثرات" [1] كحقيقة قائمة في كل عصر، إذ لا يتوقف عدو الخير عن مهاجمة المؤمنين خلال الهراطقة كما خلال أخطاء بعض الكهنة والخدام والمؤمنين من الشعب حتى يحطم النفوس الضعيفة، فإن السيد المسيح يحذرنا من جانبين: ألاّ نكون عثرة للغير، وألا نتعثر نحن كصغار في الإيمان خلال أخطاء الغير.

في حديثنا عن هذه العبارات الإنجيلية (مت 18: 6-7؛ مر9: 42) رأينا أنه كان من عادة اليهود حين يقطعون الأمل في إنسان ويريدون أن يجعلوه عبرة للغير، يربطون عنقه في حجر، ويلقون به في البحر، فلا يظهر بعد، هكذا يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الخادم أو الكاهن الذي يعثر شعبه يلزمه أن يترك عمله الرعوي ويهرب لخلاص نفسه مختفيًا عن أن يُدان عن النفوس التي يعثرها في خدمته عوض أن يكون علة خلاصها بالصليب.

نكرر أيضًا مع القديس يوحنا الذهبي الفم قوله أن كانت هذه هي عقوبة من يعثر الصغار، فماذا تكون مكافأة من ينقذ النفوس المتعثرة والضعيفة [فلو لم يكن خلاص نفس واحدة عظيم جدًا لدى المسيح ما كان يهدد بعقوبة كهذه لمن يعثر إنسانًا.]

2. اتساع القلب للمخطئين إلينا

إن كنا نود صداقة أصيلة وعميقة مع المخلص السماوي يلزمنا أن نحمل عمله فينا وهو الاهتمام بخلاص كل نفس، فلا نسمح لأنفسنا أن نكون عثرة لصغير في الإيمان ولا أن نتعثر نحن في طريق خلاصنا بسبب ضعفات الغير، فإن العلة الأولى للعثرة هي ضيق القلب وعدم اتساعه بالحب نحو الآخرين خاصة المخطئين إلينا، لذا يقول:

"احترزوا لأنفسكم، وإن أخطأ إليك أخوك فوبخه،

وإن تاب فاغفر له؛

وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم

ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلًا: أنا تائب،

فاغفر له" [3-4].

في اتساع قلبنا أن أخطأ إلينا أخ نوبخه، لا لنبرر أنفسنا أو نلقي باللوم عليه، وإنما لكي بالحب نربحه ونربح خلاص نفسه، لذا يقول السيد المسيح في موضع آخر: "عاتبه بينك وبينه وحدكما، وإن سمع منك فقد ربحت أخاك" (مت 18: 15). وكأن غاية هذا العتاب المملوء محبة هو "اقتناء نفسه" كربحٍ لنا ومكسبٍ فلا نفقده عضوًا في الجسد المقدس. لم يضع السيد المسيح للحب حدودًا، بل طالبنا أن نغفر لمن يخطىء إلينا ويرجع نادمًا إلى سبع مرات في اليوم، أي إلى مرات بلا عدد، لأن رقم 7 يشير إلى الكمال.

إن كان السيد المسيح يطالبنا أن نغفر للمخطئين إلينا هكذا كل يوم، كم بالأكثر يغفر هو لنا متى رجعنا إليه بحديثه هذا يفتح لنا باب الرجاء غير المنقطع لنعود إليه بالتوبة معترفين بخطايانا.

v يا لحكمة الله! فبعد أن ذكر مثل عذاب الغني في موضع الآلام (أصحاح 16) عاد ليوصي بالغفران للراجعين بالتوبة نادمين، حتى لا ييأس أحد قط من رجوعه عن خطاياه!

يا للحكمة، فإنه لكي لا يكون الإنسان قاسي القلب في تقديم المغفرة (للآخرين) ولا أيضًا متهاونًا في رحمته، فلا يصطدم الغير بعنف التوبيخ، كما لا يسترسل متهاونًا في الخطأ، لذا قال في موضع آخر: "إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما" (مت 18: 15). العتاب الودّي أفضل من الاتهام العلني؛ الأول يوحي بالخجل، أما الثاني فيثير الغضب... من الأفضل أن يعتبرك من أخطأ إليك إنسانًا تنذره كصديق، ولا تهاجمه كعدوٍ. فإنه يسهل على الإنسان أن يقبل النصيحة عن أن يخضع للعنف، لذا يقول الرسول: "انذره كأخ" (2 تس 3: 15). الخوف حارس ضعيف على المثابرة أما الخجل فمعلم صالح للواجبات.

v حسنًا قيل: "إن أخطأ إليك"، فإن الوضع يختلف بين أن تُوجه الخطية ضد الله أو ضد الإنسان، لذا يقول الرسول المفسر الحقيقي للنبوّة: "الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه" (تي 3: 10)، فلا يغفر للإيمان المنحرف كما لخطأ (ضد إنسان)[723].

القديس أمبروسيوس

v أنت تُدعى ابنًا، فإن رفضت أن تتمثل بالله (غافرًا لأخيك) فلماذا تطلب ميراثه

v أريدكم أن تغفروا إذ أراكم تطلبون الغفران[724].

القديس أغسطينوس

إن كان قد طالبنا أن نوبخ أخانا المخطىء إلينا، فلا نقف عند التوبيخ، إنما إذ ننطلق به بالحب نغفر له. ولكن إلى أي مدى إلى سبع مرات، أي بلا حدود.

v يقول إن كان الذي يخطئ إليك يتوب ويعرف خطأه اغفر له، ليس مرة واحدة فحسب بل مرات كثيرة.

يليق بنا ألا نظهر ناقصين في المحبة المشتركة، مهملين في الاحتمال، فإنه يمكن لكل أحد أن يضعف ويخطئ مرة ومرات. إنما بالحري يلزمنا أن نتمثل بالذين يعالجون أمراض أجسادنا، فإنهم لا يعالجون المريض مرة ومرتين فحسب، وإنما كلما سقط في مرض.

لنذكر أننا نحن أنفسنا معرضون للضعفات، ويمكن أن تتسلط علينا أهواؤنا، لهذا نطالب الذين لهم حق التوبيخ وفي سلطانهم أن يؤدبوننا أن يترفقوا بنا ويغفروا لنا. هكذا من واجبنا نحن أيضًا أن تكون لنا مشاعر مشتركة، فنشعر بالضعف ونحمل أثقال بعضنا البعض، بهذا نكمل ناموس المسيح (غل 6: 2)[725].

القديس كيرلس الكبير

يقدم لنا القديس أمبروسيوس تفسيرًا لغفراننا لأخينا المخطىء سبع مرات كل يوم، وهو أن رقم 7 يذكرنا باليوم السابع الذي فيه استراح الله من جميع عمله (تك 2: 2)، فصار اليوم السابع مقدسًا عند اليهود، وأيضا الشهر السابع والسنة السابعة الخ. إن كان الرب استراح في اليوم السابع، بمعنى أنه وجد راحته بعد أن خلق الإنسان في اليوم السادس وأقام العالم لأجله، ففرح به، هكذا إذ يرى فينا أننا نغفر لإخوتنا بلا انقطاع يستريح فينا، إذ يجد عمله الإلهي قد كمل. هذا هو سبت الرب المفرح إذ يجد أولاده حاملين سمته كمحب للبشر، غافرين أخطاء الآخرين، متسعة قلوبهم بالحب. لم يعد سبت الرب مجرد يوم لكنه "حياة مقامة فيه"، من يحفظه إنما يعيش قائمًا به لا يخضع لموت البغض ولا لفساد الانتقام بل يحيا حرًا بحب الله الشامل!

3. زد إيماننا

لعل الرسل أدركوا أن ما يوصي به السيد المسيح هو فوق حدود الطبيعة، لذا طلبوا عونًا إلهيًا، فيحملوا بالإيمان الطبيعة الغافرة لأخطاء الغير، إذ يقول الإنجيلي:

"فقال الرسل للرب: زد إيماننا.

فقال الرب: "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل

لكنتم تقولون لهذه الجميزة انقلعي وانغرسي في البحر،

فتطيعكم" [5-6].

ويلاحظ في هذا الحديث الآتي:

أولًا: أن كان "الإيمان" هو سرّ قوة الكنيسة، بدونه لن ننعم بطبيعة المسيح المُقامة عاملة فينا، وبدونه لا نقدر أن نقدم الحب الحقيقي الغافر لأخطاء الغير، فإن هذا الإيمان هو عطية الله، ننعم به إن سألناه مع الرسل: "زد إيماننا"... هو عطية الله لكن ليس في سلبية من جانبنا.

v ما يعطي بالضرورة فرحًا لنفوس القديسين ليس نوال الخيرات الزمنية الأرضية، لأن هذه الخيرات قابلة للفساد، وبسهولة نفقدها، إنما التمتع بالخيرات المكرمة الطوباوية التي للنعم الروحية وهي عطية الله. أحد هذه النعم هو "الإيمان" الذي له تقديره الخاص، أقصد به الدخول إلى الإيمان بالمسيح مخلصنا جميعًا، هذا الذي يعرفه بولس كأعظم بركاتنا جميعها، إذ يقول "بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه" (عب 11: 6). هذا الذي به نال القدامى شهادتهم لله.

لاحظ كيف تمّثل الرسل القديسون بسلوك قديسي العهد القديم. ماذا سألوا المسيح زد إيماننا. لم يطلبوا إيمانًا مجردًا، لئلا تظن أنهم كانوا بلا إيمان، بل بالحري طلبوا من المسيح أن يزيد إيمانهم، ويقويه فيهم.

يعتمد الإيمان علينا جزئيًا، ومن الجانب الآخر هو عطية النعمة الإلهية. ففي البدء يعتمد علينا (لنا أن نقبله أو نرفضه)، ففي سلطاننا أن نثق في الله ونؤمن به، وأما تثبيته وتقويته، فيتطلب النعمة الإلهية. لهذا السبب، إذ كل شيء ممكن لدى الله، قال الرب: "كل شيء مستطاع للمؤمن" (مر 9: 23). القوة التي تحل بنا خلال الإيمان هي من الله. إذ يعرف الطوباوي بولس ذلك يقول في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس: "فإنه لواحد يعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد" (1 كو 12: 8-9). ها أنت تراه يضع الإيمان في قائمة النعم الروحية. هذا هو ما طلبه التلاميذ لينالوه من المخلص... وقد وهبهم إيّاه بعد إتمام التدبير بحلول الروح القدس عليهم. فإنه قبل القيامة كان إيمانهم هزيلًا، كان لهم قلة إيمان - قدم القديس موقف التلاميذ عند هياج الأمواج كمثل لقلة إيمانهم - (مت 8: 26؛ 14: 31، لو8: 25، يو 6: 19)... لا تعجب إن كانوا يطلبون زيادة إيمانهم من المسيح مخلصنا جميعًا. وقد أوصاهم ألا يبرحوا أورشليم بل ينتظروا موعد الآب حتى يلبسوا قوة من الأعالي (أع 1: 4). عندما حلت بهم القوة التي من الأعالي صاروا بالحق شجعان وأقوياء، حارين في الروح، يحتقرون الموت، ولا يبالون بالمخاطر التي كان غير المؤمنين يهددونهم بها، بل وصاروا قادرين على صنع المعجزات[726].

القديس كيرلس الكبير

ثانيًا: في كلمات الرسل "زد إيماننا" كشف عن حقيقة الإيمان، أنه ليس أمرًا جامدًا قبلناه وتوقف، لكنه هو "خبرة حياة معاشة". إيماننا قبول لعمل الله فينا بلا توقف حتى نبلغ شهوة معلمنا بولس الرسول "قياس قامة ملء المسيح" (أف 4: 3). وكما يقول القديس أغسطينوس أن إيماننا يزداد [عندما يعلن "حكمة الله" ذاته علانية وجهًا لوجه مع قديسيه[727].]

إيماننا ليست كلمات نرددها، ولا فلسفة نعتنقها، لكنه حياة وخبرة عمل بالله الذي يعمل فينا بلا انقطاع، ويعمل بنا لنشهد له بلا توقف فنقتني نفوسًا لحساب ملكوته.

ثالثًا: جاءت إجابة السيد المسيح: "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذه الجميزة انقلعي وانغرسي في البحر، فتطيعكم" [6]، تكشف عن حاجتنا لا إلى زيادة مادية من جهة الكم، وإنما إلى زيادة من جهة النوع. فإنه لا يوجد وجه مقارنة بين حبة الخردل التي كان اليهود يعتبرونها أصغر الحبوب وبين شجرة الجميزة الضخمة، فإن إيمانًا حيًا كحبة الخردل الصغير قادر على المستحيلات أن يقلع شجرة جميزة بجذورها من الأرض ليغرسها في البحر وسط الأمواج الإيمان الحيّ هو صانع المستحيلات!

رابعًا: يرى القديسان أمبروسيوس ويوحنا الذهبي الفم أن "شجرة الجميز" هنا تشير إلى الشيطان، فإن كانت حياتنا قد صارت أرضًا غُرس فيها العدو كشجرة جميز، بالإيمان نطرد الشيطان بكل أعماله من حياتنا فلا يكون له موضع فينا، وإنما يُلقى في البحر كما في الأعماق، وذلك كما سمح السيد للشياطين أن تخرج من الرجل الذي في كورة الجدريين وتدخل في الخنازير فاندفع القطيع من على الجرف إلى البحيرة واختنق (لو 8: 33).

ويرى البابا كيرلس الكبير أن "شجرة الجميز" هنا تعني قدرة الإيمان على تحقيق ما يبدو لنا مستحيلًا. بالإيمان تُقتلع من الأرض رغم تأصلها بالجذور العميقة، وبالإيمان تثبت في مياه البحر المتحركة، وكأن الإيمان يصنع المستحيلات، إذ يقول: [من يثق في المسيح لا يتكل على قوته الذاتية، بل ينسب للمسيح كل ما يحققه، معترفًا أن به تتحقق كل الخيرات في نفوس البشر، وإن كان يليق بالبشر أن يهيئوا أنفسهم لقبول هذه النعمة العظيمة. للإيمان سلطان أن يحرك ما هو ثابت ومؤسس في الأرض وليس شيء على الإطلاق لا يمكن للإيمان أن يحركه متى صارت الحاجة ملزمة لتحريكه. لقد اهتزت الأرض فعلًا عندما صلى الرسل كما جاء في أعمال الرسل (4: 31). ومن جانب آخر فإن الإيمان يستطيع أن يوقف ما هو متحرك، كما أوقف جريان مجرى نهر سريع (الأردن يش 3: 16) وأوقف حركة نور الشمس التي لا تتوقف في السماء (يش 10: 13). لكن ما يجب ملاحظته تمامًا أن الله لا يود تقديم ما هو مُبهر وعجيب بطريقة باطلة أو بلا هدف، فإن مثل هذا بعيد عن جوهر الله الذي لا يعرف الكبرياء ولا العجرفة، إنما يعمل ما هو لخير البشرية وسلامها. أقول هذا لكي لا يتوقع أحد من الإيمان المقدس والقوة الإلهية أن تتم تغيرات بلا نفع مثل تغيير عناصر معينة وتحويلها أو تحريك جبال أو مزروعات... أنه يتحقق ذلك أن كان فيه نفع حقيقي، عندئذ لا ينقص الإيمان قوة للتنفيذ[728].]

إن كان الإيمان هو سرّ قوة الكنيسة، لا لممارسة أعمال خارقة بلا هدف، وإنما أولًا به ننال الحياة المقامة في المسيح يسوع. فنعيش بروح المحبة الغافرة لأخطاء الآخرين، وبه نطرد الروح الشرير وكل أعماله، فنقتلعه من حياتنا كالجميزة، لنلقى به كما في هاوية البحر وأعماق المحيطات، فإن ما يفسد إيماننا هو "اتكالنا على برنا الذاتي". فننسى أن ما وُهب لنا من بنوة، ومن أعمال مقدسة، وقدرة على تنفيذ الوصية. أنه عطية الله المجانية، وأننا في حقيقتنا عبيد بطالون، مهما كان سلوكنا. هذا ما أكده السيد المسيح، إذ قال بعد حديثه عن الإيمان مباشرة:

"ومن منكم له عبد يحرث أو يرعى يقول له إذا دخل من الحقل

تقدم سريعًا واتكئ.

بل ألا يقول له: اعدد ما أتعشى به وتمنطق واخدمني حتى أكل وأشرب،

وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت.

فهل لذلك العبد فضل لأنه فعل ما أُمر به لا أظن.

كذلك أنتم أيضًا متى فعلتم كل ما أُمرتم به

فقولوا: أننا عبيد بطّالون،

لأننا إنما نعمل ما كان يجب علينا" [7-10].

ماذا عنى السيد المسيح بهذا المثل أراد أن يؤكد لنا مركزنا الحقيقي خارج نعمته أننا عبيد بطّالون، أي عبيد لله لم نوفِ حقه كما ينبغي. فإن جعلناه الأول في حياتنا، وقدمنا كل شيء لحسابه، نبقى عبيدًا مدينون له بحياتنا، نشعر في أعماقنا أننا بطّالون، أما خلال نعمته فقد صرنا أبناء له، ما نمارسه هو من قبيل عطيته المجانية، وليس ثمنًا لجهادنا الذاتي أو فضلًا منا.

v إذ أراد الرب أن يظهر أنه بالرغم من إلزامنا بكل وصية، لكنه يهب البنوة للبشر في استحقاق دمه، لذلك قال: "متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا أننا عبيد بطّالون، لأننا إنما نعمل ما كان يجب علينا". هكذا فإن ملكوت السماوات هو هبة يعطيها الرب للعبيد المؤمنين وليس جزاءً لأعمالنا.

فالعبد لا يطلب التحرر (من العبودية) جزاء عمله، وإنما يحاول أن يقدم كل ما في وسعه كمدينٍ، وينتظر التحرر كهبة.

"المسيح مات من أجل خطايانا" (1 كو 15: 3)، وهو يهب الحرية لمن يخدمونه حسنًا، إذ يقول: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح سيدك" (مت 25: 23).

v يظن البعض أنهم يؤمنون بالحق وهم لا ينفذون الوصايا، والبعض بينما ينفذون الوصايا يتوقعون الملكوت كجزاء عادل (لاستحقاقاتهم الذاتية)؛ كلاهما يخطئان ضد الحق.

v إن كان المسيح قد مات لأجلنا "كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام" (2 كو 5: 15)، فمن الواضح أننا ملزمون أن نخدمه حتى الموت؛ فكيف إذن ننظر إلى البنوة كجزاءٍ عادلٍ (لأعمالنا الذاتية)

نحن الذين وهب لنا الحياة الأبدية، نصنع الأعمال الصالحة لا لأجل الجزاء، بل لحفظ النقاوة التي وُهبت لنا[729]

القديس مرقس الناسك

v في العبارات السابقة وجه الرب إلينا حديثًا طويلًا وهامًا ليظهر لنا الطرق التي تقودنا إلى الكرامة، معلنًا أمجاد الحياة غير الملومة لكي نتقدم فيها، وننمو بغيرة إلى ما هو مدهش، فننال مكافأة دعوتنا العليا (في 3: 14)

ولما كانت طبيعة فكر الإنسان تتجه نحو المجد الباطل وتميل إليه... وهذه خطية خطيرة يبغضها الله؛ هذا وتقود الحية أصل الشر البشر إلى مثل هذا الفكر، فيظنون أن الله يهبهم الكرامات العليا من أجل حياتهم المجيدة المميزة (أي من أجل استحقاقاتهم الذاتية)؛ لذلك أراد الرب أن يسحبنا من هذه الأهواء (أفكار المجد الباطل). فوضع أمامنا فحوى هذه الدروس التي قُرأت حالًا علينا، معلمًا إيانا بهذا المثل أن قدرة السلطان الملوكي (الإلهي) تتطلب من العبيد أن يخضعوا لها كدين يلتزمون به. أنه يقول بان الرب لا يقدم شكرًا للعبد حتى وإن فعل ما وجب عليه عمله لأنه عبد.

أسألكم أن تلاحظوا هنا أن التلاميذ، نعم وكل الذين يخضعون لقضيب المسيح مخلص جميعنا يُحثون على المثابرة لكنهم لا يمارسون الخدمة كفضلٍ من جانبهم، وإنما كمن يفي دين الطاعة الذي يلتزم به العبيد. بهذا يُنزع مرض المجد الباطل اللعين.

إن كنت تفعل ما هو واجب عليك فلماذا تفتخر ألا ترى أنك إن لم تفِ دينك تكون في خطر، وإن وافيته فلا تستحق شكرًا على ذلك هذه الحقيقة تعلمها حسنًا العبد العجيب بولس وأدركها تمامًا، إذ يقول: "لأنه إن كنت أبشر فليس لي فخر إذ الضرورة موضوعة عليّ، فويل لي إن كنت لا أبشر" (1 كو 9: 16). مرة أخرى يقول: "إني مديون" (رو 1: 14) أن أكرز لليونانيين والبرابرة، للحكماء والجهلاء.

فإن صنعت حسنًا، وحفظت الوصايا الإلهية، وأطعت ربك، فلا تسأل كرامة الله كاستحقاق لك، بل بالحري اقترب منه واسأله عطايا جوده...

نعم! وإن كنا عبيدًا، لكنه يدعونا أبناء، ويكللنا بمجد الأبناء![730]

القديس كيرلس الكبير

v مادمنا على قيد الحياة يلزمنا أن نعمل على الدوام.

اعترف أنك عبد ملتزم بتقديم خدمات كثيرة، ولا تتكاسل لأنك دُعيت ابنًا لله!

استسلم لعمل النعمة دون أن تتجاهل الطبيعة (أنك عبد).

لا تفتخر أن كنت عبدًا صالحًا، فهذا واجب ملتزم أنت به. فالشمس تقوم بعملها، والقمر أيضا يطيع، والملائكة تخدم، والإناء المختار الذي استخدمه الرب للأمم يقول: "ليس مستحقًا أن أُدعى رسولًا لأني اضطهدت كنيسة الله" (1 كو 15: 9). وفي موضع آخر إذ أشار أنه فعل ذلك بجهالة، أضاف: "ولكني لست بذلك مبررًا" (1 كو 4: 4).

إذًا ليتنا لا نسعى لننال مجدًا لأنفسنا؛ فلا نسبق دينونة الله، ولا نتكهن بحكم الديان إنما نترك ذلك لحينه، بكونه الديان الحقيقي[731].

القديس أمبروسيوس

v [يربط القديس أغسطينوس بين طلبة الرسل من السيد المسيح أن يزيد إيمانهم وبين هذا المثل الذي ضربه السيد، إذ يرى فيه العبد الذي ينطلق من الخدمة في الحقل كحارث للأرض أو راعٍ للخراف، لكي يدخل بيت سيده يأكل ويشرب هناك، وكأنه خلال الإيمان المتزايد ينتقل من خدمة هذا العالم إلى حياة التأمل، أو ينطلق من حياة الجهاد والعمل إلى التمتع بالملكوت الأبدي، إذ يقول:]

الذين لا يفهمون هذا الإيمان بالحق يظنون أن الرب لم يستجب لطلبة تلاميذه. فإنه يبدو وجود صعوبة للربط بين طلبتهم (زيادة إيمانهم) وهذا المثل، ما لم نفترض أن الرب يقصد بهذا المثل الانطلاق من إيمان إلى إيمان؛ من الإيمان الذي به نخدم الرب إلى الإيمان الذي به نتمتع بالرب. إيماننا يزداد في البداية عندما نقبل كلمة الكرازة، ثم ننعم بعد ذلك بالحق حاضرًا، إذ ننال التأمل المفرح والسلام الكامل، هذا الذي يوهب لنا في ملكوت الله الأبدي.

ليت العبد الذي في الحقل يحرث أو يرعى، أي يمارس العمل الزمني (بأمانة) ويخدم الناس الأغبياء كقطيع، يعود بعد العمل إلى بيته، أي يتحد مع الكنيسة (يتمتع بحياة التأمل)...

v بينما عبيد المسيح يخدمون، أي يكرزون بالإنجيل، يأكل ربنا ويشرب إيمان الأمم واعترافهم به.

يكمل الحديث: "وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت" [8]. وكأن السيد يقول: بعدما أتمتع بعمل كرازتكم، وأتغذى أنا نفسي بطعام توبتكم، عندئذ تأتون أنتم وتتمتعون بالوليمة أبديًا، وليمة الحكمة الخالدة[732].

القديس أغسطينوس

4. الشكر والإيمان (العشرة بُرص)

قلنا أن الإيمان هو سرّ قوة الكنيسة، به ننعم على الصداقة الإلهية، هذا الإيمان ليس حكرًا لشعب ما أو أمة معينة إنما هو مُقدم لكل البشرية. هذا ما أوضحه لنا الإنجيلي عندما حدّثنا عن لقاء السيد المسيح بعشرة رجال بُرص يطلبون منه أن يرحمهم، عندئذ أمرهم: "اذهبوا أروا أنفسكم للكهنة" وفيما هم منطلقون طهروا، فعاد إليه واحد منهم يقدم الشكر له وكان سامريًا، فاستحق دون سواه أن يسمع: "قم وامض إيمانك خلصك" [18].