أعاد يسوع إلى رجلٍ أخرس ممسوس

القدرة على الكلام

نصّ الإنجيل

وما إن خرجَ (الأعميان) حتى أُوتيَ يسوعَ بأخرَسَ ممسوس. فلمَّا طُرِدَ الشيطانُ تكلَّمَ الأخرَس، فتَعَجَّبَ الجُموعُ وقالوا : " لَمْ يُرَ مِثْلُ هذا قَطُّ في إسرائيل !


" أمَّا الفرِّيسيُّون فقالوا : " إنَّما يَطرُدُ الشياطينَ بسيِّدِ الشياطين ". (متى 9/32-33)

حقد الشيطان على هذا الرجل

ما كاد يسوع يَهَبُ البصر لرجلَيْن أعمَيَيْن في مدينة كفرناحوم حتى بادرَ إليه الناس وقدّموا إليه رجلاً أخرس قد استولى عليه الشيطان. فلمّا أخرج يسوع الشيطان تكلّم الأخرس.

نحن نتساءل لماذا اختار الشيطان هذا الرجل فصبَّ عليه جامَ حقده ليجعله أخرس مدى الحياة لا نعلم ...ولكنّنا نعلم أنَّ مَنْ أساءَ استعمال لسانه نال عقاب إساءته. فهل استسلم هذا الرجل إلى سوء استعمال لسانه فسمح الله للشيطان بأن يستولي عليه ويضربه بالخَرَس قد يكون الأمر كذلك. وقد يكون هذا الرجل ضحيّة حقد الشيطان الذي يُضمِر الشرّ لكلِّ إنسان.

إن لِلِسان الإنسان فوائد فرديّة واجتماعيّة ودينيّة كثيرة. فباللِّسان يتّصل بالآخرين، ويعبّر عن عواطفه وأفكاره وآلامه وحاجاته. فمن حُرِمَ اللِّسان شعر بنقصٍ عظيم في حياته الفرديّة والاجتماعيّة، ولا سيّما في حياته الدينيّة، فلا يستطيع أن يشترك مع أخوته المؤمنين في الأناشيد والترانيم الروحيّة التي تسبّح الله.

فالشيطان قد حَقَدَ على هذا الرجل، وسكن فيه، ليُبقيَهُ محروماً من جميع أسباب التعزية الفرديّة والاجتماعيّة والدينيّة، ويعزلَه بالخرَس عن أهل بيته وجيرانه، ويخلقَ في قلبه عُقدةً نفسيّة تضعه على هامش المجتمع في جميع مجالات الحياة .

هدفُ يسوع تمجيدُ اسم الله

لم يشأ يسوع أن يبقى هذا الأخرس ضحيَّةَ حقد الشيطان. فلمّا جاء به أصدقاؤه إلى يسوع وقدّموه إليه أمر الشيطان بأن يخرج منه، فخرج فوراً ومن دون أيّة مقاومة.


لقد نفّذ الشيطان بسرعة أمر يسوع لأنّه شاهد في كفرناحوم قَبْلَ مدّةٍ وجيزة المُعجزة التي صنعها فوهب بها البصر لرجلَيْن أعمَيَيْن كانا قد عبّرا عن إيمانهما بأنه المسيح المنتظَر. فعرف الشيطان أنّه أمام قوّةٍ إلهيّة، وأنّه لن يقدر على مقاومتها، فرَضَخَ لأمر يسوع مُرغماً وخرج من الأخرس.

كان هدف يسوع أن يمنح هذا الأخرسَ القدرةَ على ممارسة حياة دينيّة سليمة مع أبناء مجتمعه في الصلاة والأناشيد وتلاوة المزامير، لتمجيد اسم الله الأعظم.


وقد تمجّد اسمُ اللهِ فعلاً ، إذ قد أثارت هذه المعجزة " السريعة " دهش الحاضرين فصرخوا وهم مُعجبون بقدرة يسوع الفائقة : " ما رأينا قطُّ مِثْلَ هذا في إسرائيل ! "

فيسوع لم يعمل شيئاً إلاّ لمجد أبيه السماوي. وهذا ما صرّح به يوماً بكلّ وضوح وهو يصلّي، فقال لأبيه: " إنّي قد مجّدتُكَ على الأرضِ فأتمَمْتُ العملَ الذي وكلتَ إليَّ أن أعمَلَهُ ". (يوحنَّا 17/4)

يجب على المسيحي ألاّ يستعمل لسانه إلاّ لتمجيد الله

يسوع قدوتنا في كلّ شيء. فعلى المسيحي ألاّ يستعمل لسانه إلاّ لتمجيد الله وتسبيحه. ولكنَّ الواقع يُطلعنا على أن اللّسان سيفٌ ذو حدَّيْن. منه البركة ومنه اللَّعنة، ومنه التسابيح الرائعة، ومنه التجاديف القذرة.

وقد شعر القديس يعقوب، كغيره من الناس، بهذه الازدواجيّة وهذا التناقض في استعمال اللِّسان، فوصف لنا في رسالته الجامعة ما يأتيه اللِّسان من خير وما يصنعه من شرّ، فشبَّهه بالدَفَّةِ الصغيرة التي توجّه السفينة الكبيرة، وبلهيبِ النار الذي يَحْرُقُ الغابة الواسعة، وبالسُمِّ الزُعاف الذي ينفُثُ الموت في نفوس أبناء الكنيسة، وبينبوعِ البركة ومصدرِ اللعنة. (رسالة القديس يعقوب الجامعة 3/3-11)

ودعانا يسوع أيضاً إلى حُسْن استعمال ألسنتنا لنحقِّق مجد الله، فطلب منّا :

1- أن نترك الكلام للروح القدس الذي يتكلّم بألسنتنا في أوقات الاضطهاد: " فلا يُهِمُّكُم حينَ يُسلِمونَكُمْ كيفَ تتكلَّمون أو ماذا تقولون. فسيُلقَى إليكُم في تلكَ الساعةِ ما تتكلّ*ََمونَ بِهِ. فلَستُمْ أنتُمْ المتكلِّمين، بل روحُ أبيكُمْ يتَكَلَّمُ بألسِنَتِكُمْ" (متى/1019-20)

2- وأن نقول الحقّ ونشهدَ للمسيح بشجاعة وَفْقَ إيماننا : " مَنْ شَهِدَ لي أمامَ الناسِ، أشهَدُ لهُ أمامَ أبي الذي في السماوات. ومَنْ أنكَرَني أمامَ الناسِ، أُنكِرُهُ أمامَ أبي الذي في السماوات ". (متى 10/32-33)

3- وأن نتكلَّم كلاماً طيِّباً ونُحجم عن الكلام الرديء : " يا أولادَ الأفاعي، كيفَ لكُمْ أن تقولوا كلاماً طيِّباً وأنتُمْ خُبثاء فَمِنْ فيضِ القَلبِ يتَكَلَّمُ اللِّسان. الإنسانُ الطيِّبُ مِنْ كنزِهِ الطيِّبِ يُخرِجُ الطيِّب. والإنسانُ الخبيثُ مِنْ كَنزِهِ الخبيث يُخرِجُ الخبيث. وأقولُ لكُمْ إنَّ كلَّ كَلِمَةٍ باطِلَةٍ يقولُها الناسُ يُحاسَبونَ عليها يومَ الدينونة، لأنَّكَ تتزَكّى بكلامِكَ، وبِكلامِكَ يُحكَمُ عليك ". (متى /34-37)

4- وأن نشهد لألوهيّة يسوع فنقول له ما قاله له بطرس : " أنتَ المسيحُ ابنُ الله الحيّ ". (متى 16/16)

وهكذا وجّه يسوع كلامنا إلى التعبير عن الحقيقة الموحاة، وصبغه بصبغة الصلاح والتقوى والإيمان، وكلّ ذلك لتمجيد اسم الله الأعظم.

رؤساء اليهود رفضوا المعجزة الإلهيّة

رأى رؤساء اليهود هذه المعجزة فنسبوها إلى رئيس الشياطين، فقالوا : " إنّما يَطرُدُ الشياطين بسيِّدِ الشياطين ".

وبتعبير آخر، لم يكن يسوع في نظرهم إلاّ ساحراً اتَّفَقَ مع رئيس الشياطين على خداع الناس. لقد أخرج من الممسوس واحداً من الشياطين برضى رئيس الشياطين وبالاتفاق معه، وهدفُه أن يُبهِرَ الناس، ويُدخِلَ الوهمَ إلى قلوبهم أنَّه مُرسَل من قِبَلِ الله، فيُعلِّمَهُم الضلال ويَقودَهُم في نهاية المطاف إلى طاعة الشيطان. إنّها مؤامرة على المؤمنين البُسطاء نسجَها يسوعُ بموافقة رئيس الشياطين، ونفَّذها في هذا الرجل الأخرس لينزع عنهم إيمانهم بالله ويجعلهم يرضخون لتدبير رئيس الشياطين.

بهذه الفِرْية فسَّرَ رؤساء اليهود الأشرار معجزة طَرْد الشيطان من الرجل الأخرس، فكانوا في حقدهم على يسوع أشدَّ شراسةً من حقد رئيس الشياطين نفسه. لقد استعملوا ألسِنَتهم الخبيثة الكاذبة لا لتوطيد الخير، بل لبثّ الشرّ ومعارضة انتشار ملكوت الله بين الناس. هكذا يتصرّف كلّ إنسانٍ شرّير، فيُقاوم خطّة الله، ويمنع نشر الخير بين الناس وهدفُهُ أن يقودهم بكَذِبه إلى نبذِ الإيمان والكُفرِ بالله.


التطبيق العملي

1- لقد جعل يسوع الرجل الأخرس، في أيّامه، يتكلّم ويمجّد الله، وهو لا يزال اليوم يؤثّر في قلوب الخطأة الخرساء ويجعلها تتكلّم وتمجّد الله. ولكن كما احتاج الأخرس إلى الأصدقاء ليقودوه إلى يسوع، هكذا يحتاج الخطأة إلى الأصدقاء الأوفياء ليقودوهم إليه. فكُنْ أنتَ واحداً منهم لتقودَ أصدقاءك الخطأة إلى يسوع، فينالون منه الشفاء، ويتكلّمون كلاماً روحيّاً، فيه التسبيحُ والشكرُ لله تعالى.


2- وأنت لا تستعملْ لسانك إلاّ لتسبّح الرَّب، فلا تتفوّهْ أبداً بكلامٍ قبيح يتنافى مع قداسة الميرون الذي دُهِنَ به لسانُك يومَ قبلت المعموديّة. فما أبشعَ لسانَ المسيحي عندما يقذف المسبّات والتجاديف والأقوال الكاذبة والحلفان المستمرّ باسم الله !


3- نصح لنا بولس الرسول بأن نستعمل ألسِنَتَنا لنُنشد لله الأناشيد الروحيّة التي تسبّحه وتمجّده قال: " وليكُنْ حديثُكُم تلاوةَ مزاميرَ وتسابيحَ وأناشيدَ روحانيَّة. رتّلوا وسبّحوا للربّ من صميمِِ القلب، واحمَدوا اللهَ حمداً دائماً على كلِّ شيءٍ باسمِ ربِّنا يسوع المسيح ". (أفسس 5/9-20)


إنّ هذه النصيحة قد حملت المسؤولين في الكنائس على إنشاء جوقات التراتيل لتنشِد لله الأناشيد الروحيّة في أثناء القدّاس وفي أثناء اجتماعات الأخويّات الدينيّة.

فإذا حباكَ الله صوتاً جميلاً فلا تستنكفْ من الانضمام إلى هذه الجوقات لتساهم مع أعضائها في رفع المستوى الاحتفالي للقداديس والاجتماعات الكنسيّة.